د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

مفهوم الاستدامة

تطور مفهوم الاستدامة، خلال السنوات الأخيرة، بشكل متسارع، حتى أصبح اليوم للاستدامة أكثر من مائة تعريف، حسب رؤية الأطراف وتوجهها. وفي نطاق الأعمال، كان مفهوم الاستدامة هو أن تبقى الشركة رابحة، ذلك لأن ربحيتها هو المعيار الوحيد لبقائها في السوق. إلا أن هذا الدور لم يكن كافياً للشركات، ليتطور بعدها مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات، وهو أن الشركات باستفادتها من المجتمع بتحقيق الأرباح، يتوجب عليها إفادة المجتمع بالمقابل. ومع ازدياد نمو الشركات الذي صاحبه كذلك نمو سكاني في العالم في العقود الأخيرة، اتضح أثر الإنسان السلبي على البيئة، الذي عادة ما تسببه الشركات بعملياتها التصنيعية أو غيرها. ولذلك دخل مفهوم الحفاظ على البيئة ضمن مسؤولية الشركات، وأصبحت لذلك معايير تراقب بها الشركات.
كل هذه الأدوار أصبح يطلق عليها مفهوم الاستدامة، واتفق على الأخذ بتعريف «لجنة برونتلاند» سنة 1987، التي عرفت الاستدامة بكونها «الأنشطة الاقتصادية التي تلبي حاجات الجيل الحالي دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتهم»، ويتضح من هذا التعريف، ومن النظرة العالمية لمفهوم الاستدامة، التركيز على الجانب البيئي في الاستدامة، والتأكد من أن الشركات تأخذ المعايير البيئية في الحسبان في عملياتها وأنشطتها. وفي اتفاق الأمم المتحدة عام 2015، توصل قادة العالم إلى إدراج قضايا البيئة، سواء المياه أو الطاقة أو التغير المناخي، وكذلك القضايا الاجتماعية مثل الخدمات الصحية والتعليم، في مفهوم الاستدامة، وإدراج القطاع الخاص في هذا المفهوم.
وحتى يمكن قياس هذا الالتزام، وبالتالي وضع معايير كمية للاستدامة، يوجد اليوم ما يعرف باسم الاعتماد البيئي والاجتماعي، واعتماد الحوكمة (ESG Credentials). ويركز هذا الاعتماد في أجزائه الثلاثة على الاعتبارات التي تأخذها الشركات في تعاملها مع البيئة من ناحية استخدامها للطاقة، وتعاملها مع النفايات (سواء الخطيرة منها أو غيرها)، والتلوث واستخدامها للموارد الطبيعية والحيوانية. أما من الناحية الاجتماعية، فينظر هذا الاعتماد إلى علاقات الشركات مع الجهات ذات العلاقة، سواء كانوا من موردي الشركات، وهل يحمل هؤلاء الموردون القيم نفسها التي يحرص عليها اعتماد الاستدامة، كذلك على علاقة الشركة بموظفيها وصحتهم وتدريبهم كذلك بمحيطها الاجتماعي، فهذا الجزء من الاعتماد أقرب ما يكون إلى المسؤولية الاجتماعية للشركات، ولكن بشكل أكثر توسع. والجزء الأخير يعنى بالحوكمة، ويركز بشكل كبير على شفافية الشركة، سواء من ناحية الإفصاحات أو الإجراءات المحاسبية، إضافة إلى عدم استخدام الشركات نفودها السياسي في المنافسة مع الشركات الأخرى.
ومع زيادة المهتمين بهذا الاعتماد، قد ينظر الكثير من المستثمرين إلى حصول الشركات على هذا الاعتماد قبل الاستثمار فيها، ووجدت شركات متخصصة تساعد الشركات وتقيمها في هذه الاعتمادات، نظراً للقيمة التي يضيفها هذا الاعتماد للشركات. إلا أن هذا الاهتمام غالباً ما يتركز في الدول الأوروبية؛ حيث تناقش المفوضية الأوروبية ضرائب إضافية بشكل جدي على الشركات غير الملتزمة بهذه المعايير. بينما لا تبدو الولايات المتحدة مهتمة بها، ولعل أكبر دليل على ذلك عدم انضمام الولايات المتحدة لاتفاقية باريس للتغير المناخي، التي لم يولها الرئيس ترمب أي اهتمام، بل على العكس فقد كان إعادة مناجم الفحم للعمل إحدى أولوياته إبان الانتخابات الرئاسية. أما الصين، فقد استغلت هذه التوجه بما يتوافق مع الأسلوب الصيني، فقد ركزت أبحاثها على المنتجات المحافظة على البيئة، وحصلت في السنوات الأخيرة على عدد هائل من براءات الاختراع المتخصصة في هذه الصناعات. واستطاعت بذلك تصدير هذه المنتجات لدول الاتحاد الأوروبي، دون التركيز بشكل فعلي على هذا الاعتماد في الصين نفسها.
إن للاستدامة مفهوماً واسعاً، إلا أنه يرتكز بشكل رئيسي على تحقيق الأهداف في الوقت الحالي دون نسيان المستقبل، وأن التفكير في أرباح المستقبل المستمرة أفضل من التركيز على الأرباح السريعة قصيرة المدى. وهذا من أهم المبادئ التي يجب الاهتمام بها، فالأرباح طويلة المدى هي ما يعطي الشركة الاستمرارية والتنافسية. وبكل الأحوال، فإن هذا المفهوم بالإمكان التطبيق في محاوره الثلاثة دون التأثير بشكل سلبي على الشركات، فالحفاظ على البيئة محور أساسي في الاستمرارية، وهو لا يعني بكل تأكيد إيقاف العمليات الحالية، بل تحويرها للحفاظ على بيئة سليمة. وكذلك المسؤولية الاجتماعية للشركات، هي ما تجعل الموظفين يعطون أفضل ما لديهم للشركة، أما الحوكمة فهي حجر الأساس للشركات التي يضمن لها سلامة تعاملاتها القانونية.