جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

بريطانيا: انتخابات واحتمالات

واقع الحال في شوارع العاصمة البريطانية، بالنسبة للزائر الذي يخوض في أحيائها، ربما للمرَّة الأولى، لا يوحي بأن البلاد مُقْدِمة خلال الأسبوعين المقبلين، على واحدة من أهم الانتخابات النيابية في فترة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
ازدحام الشوارع ومحطات القطارات والمقاهي والمطاعم، ودور المسرح والسينما، وتزاحم حركة المرور، جميعها تؤكد أن الناس تمارس العيش باعتيادية، ولا مكان بينهم، ولا وقت لديهم للانشغال بمتابعة الحملات الانتخابية، أو الاهتمام بما يحدثه السياسيون من ضجيج في وسائل الإعلام، وما يرتكبونه – كالعادة - من حماقات.
هذا - على الأقل - ما يبدو طافياً على السطح. وهو في الحقيقة يجانب الواقع، ولا يختلف كثيراً عن جبل جليدي في مياه محيط، لا تبدو للرائي سوى قمته؛ لكن تحت هدوء السطح تتشكل تضاريس واقع مختلف، تتجاذبه تيارات قلق وتوتر وخوف، مما وممن ستأتي به نتائج يوم 12 ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
تكهنات المحللين والمراقبين السياسيين، على عادتها، تتضارب وتسير في خط بياني متعرج، صعوداً وهبوطاً، وفقاً لما يستجد في الساحة من أحداث، ووفقاً لأهوائهم السياسية، وما تمليه عليهم رغباتهم. واستبيانات الرأي العام حتى الآن تشير جميعها - تقريباً - إلى إمكانية عودة السيد بوريس جونسون إلى مقر عمله في «10 داوننغ ستريت» في اليوم التالي للانتخابات لممارسة مهام منصبه، متسلحاً بأغلبية برلمانية مريحة.
لكن ما تقوله هذه الاستبيانات غير باعث على الاطمئنان؛ لأن السوابق تلقي بظلال كثيفة من الشك حولها، بسبب ما حدث في الانتخابات الماضية والتي سبقتها. ولهذه الأسباب، يكون من المجدي التعامل مع التحليلات والاستبيانات بكثير من الشك؛ لأن للانتخابات البريطانية طبيعتها الخاصة. وربما لهذه الأسباب، قد يمكن التكهن بعودة الجميع، في اليوم التالي للانتخابات، إلى الوجود تحت قبة برلمان معلق، مما يعني – حرفياً - العودة إلى وضعية المراوحة في المكان، التي سادت البرلمان السابق.
وعلى أي حال، فإن احتمال عودة السيد جونسون إلى «10 داوننغ ستريت»، يعني أيضاً إنزال ستارة المسرح على الزعيم العمالي جيريمي كوربين، نهائياً، وفتح الأبواب أمامه ليغادر الركح إلى هدوء بيته؛ حيث يمكنه الاستمتاع بتقاعد مريح. وفي المقابل سيجد حزب العمال نفسه في وضعية سياسية، تتطلب منه اختيار زعامة جديدة، ووضع سياسات مختلفة، تتيح له خلال السنوات القادمة استرداد ما فقد من أرض، وما خسر من أنصار.
ومع ذلك، يظل هناك احتمال، ولو بسيط، بإمكانية أن يتكرر ما حدث في انتخابات عام 2017؛ خصوصاً أن التقارير الإعلامية أشارت مؤخراً إلى أن إقبال الشباب على التسجيل للمشاركة في الانتخابات قد ارتفعت وتيرته بشكل ملحوظ، وتبيَّن أن ما لا يقل عن عدد 2.4 مليون ناخب شاب، تحت سن 34 عاماً، قد سجلوا رسمياً للتصويت، منذ الإعلان عن موعد الانتخابات يوم 29 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. هذا الزخم الانتخابي الشبابي يحسب في أغلبه لصالح كوربين والعماليين.
إذا صدقت استبيانات الرأي العام، وتمكن أنصار «بريكست»، في انتخابات «بريكست» هذه، من حسم الأمر لصالحهم يوم 12 ديسمبر (كانون الأول)، كما فعلوا في استفتاء الخروج عام 2016، فهذا يعني - ضمن أشياء أخرى - أن الحكومة الجديدة ستبدأ، فورياً، في وضع أساسات جديدة لمرحلة لن تكون سهلة، سياسياً واقتصادياً، وأقرب - في رأيي - ما تكون إلى ثورة. والحكم على أي ثورة، كما يعلمنا التاريخ، لا يكون على بدايتها؛ بل كيف تنتهي.
وبحكم التجربة والمتابعة الشخصية لما سبق من انتخابات عامة، فإن هذه الانتخابات المقبلة تُعدُّ الأكثر تعقيداً، والأشد تنافساً وتجاوزاً لكثير مما كان يعد ثابتاً من تقاليد وأعــراف:
أولاً؛ لأن ما كانت تعرف بدوائر انتخابية آمنة للحزبين الرئيسيين، لم تعد كذلك، بسبب ما أحدثه «بريكست» من انقسام. فدوائر حزب العمال الآمنة في الشمال والميدلاند أضحت أهدافاً مشروعة، وقابلة للانتزاع من قبل المحافظين. والشيء نفسه يقال حول بعض الدوائر الانتخابية المحافظة في الجنوب، وتحولها إلى أهداف، وخصوصاً لحزب الأحرار الديمقراطيين. وهذا بدوره، كما تقول التقارير الإعلامية، قد يقود إلى إمكانية أن يفقد حزب المحافظين عدداً من نوابه البارزين المعروفين بدعواتهم وبتأييدهم لـ«بريكست»، لكونهم يخوضون الانتخابات في دوائر انتخابية تؤيد البقاء في أوروبا. ويأتي في مقدمة هؤلاء وزير الخارجية دومينيك راب. والشيء نفسه يقال عن حزب العمال.
وثانياً، أن حدة الانقسام في المجتمع البريطاني التي سببها موضوع الخروج من عدمه من الاتحاد الأوروبي سوف تدفع - في رأيي - بنسبة عالية من الناخبين، إلى الحرص على الإدلاء بأصواتهم، على أمل حسم موضوع الخروج نهائياً.
وثالثاً، إذا سارت رياح هذه الانتخابات بعكس ما تشتهيه مراكب السيد جونسون من توقعات، وجاءت بنتائج محبطة، ومخيبة لآمال أنصار «بريكست»، فهذا يعني أيضاً نهاية السيد جونسون سياسياً، وخروجه من المسرح نهائياً.