يمكن للرئيس الأميركي، دونالد ترمب، أن يحاججَ منافسيه في الداخل الأميركي بأنَّ استراتيجيته المعروفة بالضغط الأقصى قد بدأت تؤتي حصادها، ومن دون حاجة إلى إطلاق رصاصة واحدة على إيران.
همس أحدهم في أذن ترمب بأن الشعوب أيضاً، وليس الجيوش، هي التي تمشي على بطونها، ومن هذا المنطلق كان تشديد العقوبات الأميركية إلى أقصى وأقسى حد الطريق الناجع القادر على إزعاج الملالي، إلى درجة توجيه الرصاص الحي لصدور الشباب الإيراني الغاضب.
فارق شاسع بين التعاطي الأميركي في 2009 مع مظاهرات الشارع الإيراني، وردات فعل واشنطن، هذه المرة، التي تمثلت في تغريدة وزير الخارجية مايك بومبيو، وأكد فيها على ما أشار إليه من قبل في 22 يوليو (تموز) 2018، أي دعم أميركا للشعب الإيراني، الذي يرفض أن يقف صامتاً تجاه الانتهاكات التي ترتكبها حكومته، وواشنطن أيضاً لن تقف صامتة.
تتحرك أميركا - ترمب في العلن والسر، كي تجبر الملالي على تغيير سلوكهم، وإن شئت الدقة قل إنهاء أربعة عقود من الجمود الأرثوذكسي السياسي، ومن ثورة ثيولوجية مغشوشة.
هنا ينبغي أن نشير إلى أن كارثة باراك أوباما التي أوصلت العالم إلى اتفاق نووي سيئ السمعة أنه لم يعمد إلى اعتماد دبلوماسية دقيقة متسلسلة، وإنما لجأ إلى التعويل على تسليط الأضواء على العقوبات، ومن غير تفعيل حقيقي على الأرض، وانتظار نتائج التهويمات، الأمر الذي يتفق مع دعمه لجماعات الإسلام السياسي في إدارتيه، وهو ما أعاد الولايات المتحدة إلى الوراء، أي إلى موقف مماثل لعام 1965، والأزمة الفيتنامية، وهو منزلق مائل باتجاه الحرب.
يقين ترمب الذي لا يتزعزع أن إيران لا يمكن الوثوق بها اليوم أو غداً، فمناهضة الأميركيين إنما تشكل جزءاً ثابتاً من آيديولوجيا النظام الإسلامي في إيران، وإيران على هذا النحو والمفهوم يمكن احتسابها على أنها آخر معاقل مناهضة الإمبريالية في العالم الثالث، التي لم تسقط بيد الغرب نهائياً، ومع هذا، فديكتاتوريتها تمسك السلطة، وتمجّد هذه المقاومة، وتغلّف عداءها القومي للغرب بقشرة خفيفة من الراديكالية الإسلامية، والعهدة هنا على البروفسور نصر والي، الخبير الأميركي في الشؤون الإيرانية.
منذ قيام الثورة الإيرانية، والعالم برمته شرقاً وغرباً يدرك أن إيران لم تعد دولة، وإنما ثورة يُراد تصديرها إلى الخارج، وقد عمد الخميني، ومن لفّ لفّه، إلى بلورة صورة آيديولوجية صلبة لطهران التي لا تتغير، صورة تمثل التمرّد المستمر والمستقر في وجه استقرار الدول في المنطقة، الأمر الذي دفع ثعلب السياسة الأميركي هنري كيسنجر ذات مرة لأن يخيّر إيران بين ما إذا كانت تريد أن تمثل أمّة، أو تمثل قضية، وشتان الفارق؛ فالأمة يتوجب عليها أن تتقبل قواعد القانون الدولي، وتقر وتعترف بالشرائع والنواميس الأخلاقية الإنسانية، والثانية لا تعدو أن تكون كياناً لا همّ له سوى تصدير القلق في النهار، والأرق في الليل لجيرانه، وهذا نموذج لا يوجد أحد، وبالذات واشنطن، يمكن أن يقبل به لأربعة عقود أخرى مستقبلاً.
خلال الأيام القليلة الماضية، كررت أميركا على مسامع العالم أنها لا تريد تغيير النظام الإيراني، لكنها تسعى إلى أن يعدّل من مساراته ومساقاته، وهو هدف تجاوزته الأحداث، فما جرى ويجري في أكثر من خمسين مدينة إيرانية، يعني أن البعل الذهبي لنظام ولاية الفقيه قد تحطم، وأن الانسداد التاريخي والمظلوميات الإيرانية تجاه الشعب قد ولى زمانها، وليس أدل على ذلك من إحراق تمثال الخميني وخامنئي، ما يعني أن المجسمات المنحولة قد بطل سحرها، وظهر جلياً زيفها.
تتفكك الإمبراطوريات العظمى، وتنهار من الداخل أخلاقياً وأدبياً، وحين تسود النخب النهبوية، لا النهضوية، الحياة العامة، يضحي الزوال قريباً، بل أقرب مما يتخيل المرء.
يجاهر خامنئي بأن الأحداث الأخيرة يقف وراءها المغرضون والمتمردون، ويصمم على رفع أسعار المحروقات، لكنه لا يجيب عن أكثر من 200 إلى 400 مليار دولار، هي ثروته الشخصية خارج وداخل طهران.
يتذرع المرشد الأعلى للثورة الإسلامية بأن المظاهرات في العراق ولبنان تعطل المسيرة تجاه القدس وتحريرها، ويدرك الشباب الإيراني الثائر أن تلك فرية عظمى، فطوال أربعة عقود لم تُطلق رصاصة إيرانية واحدة على إسرائيل، ما جعل الشباب الإيراني يهتف قبل عام ضد القضية الفلسطينية، واليوم، يرفعون أصواتهم عن فائدة المليارات التي تُنفق على الأطراف الميليشياوية في اليمن وسوريا والعراق وفلسطين، في حين يتضور أهل البلاد جوعاً إلى الكرامة قبل الخبز.
هل تخفي الولايات المتحدة الأميركية شيئاً في أكمامها للحظة المواجهة الأخيرة مع إيران؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك، لا سيما أن الأقدار تدعمها وتزخمها، وقد أحسنَتْ إدارة الرئيس ترمب طوال السنوات الثلاث الماضية في التفريق بين الشعب الإيراني (الذي وصفه ساكن البيت الأبيض بأنه شعب صاحب حضارة وتاريخ) ونظامٍ يرى في الخليج العربي بحيرة فارسية، ويسعى لطرد الحضور الأميركي خارجاً.
مخاض إيران انطلق... وأوجاع الملالي مزمنة... ونصر الشعب قريب.
TT
واشنطن وزمن الزلزال الإيراني
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة