خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

اثنان وعشرون عاماً على مذبحة الأقصر

البالغون 30 عاماً كان عمرهم 8 سنوات فقط حين حدثت مذبحة الأقصر، التي أودت بحياة نحو ستين شخصاً. هذا يعني أن نصف المتحدثين بالعربية لم يعِ - حتى إن عاصر - هذا الحدث الكبير، ذا الدلالات الباقية. لم يعرف تفاصيله ولا ملابساته، حتى وإن سمع عنه.
أهم تلك الملابسات أن المذبحة نُفذت بينما الجماعة الإسلامية وقَّعت للتو اتفاقاً على نبذِ العنف. قياداتها التاريخية داخل السجون أصدرت أدبيات تجرم - شرعياً - الممارسات العنيفة الشبيهة التي سبق لها أن اقترفتها. لكن لأن دائرة العنف في صفوف الإسلام السياسي لا نهائية، ومتوالدة بتوالد التأويلات والتفاسير، لم يُجدِ هذا نفعاً.
مذبحة الأقصر تحمل من دروساً كثيرة.
عاصم عبد الماجد، الذي صاغها بنفسه، انقلب عليها مع وصول «الإخوان» إلى الحكم. والحدث تكرر في ليبيا. قادة «الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة» التي وقَّعت على اتفاق نبذ العنف الشبيه - في 2009 - هم أنفسهم الذين بادروا إلى حمل السلاح إبان «الثورة الليبية» بعد عامين، ثم تبنوا قتل القذافي.
لم يكن هذا التشابه الوحيد بين الاتفاق المصري والاتفاق الليبي. كلا الاتفاقين توسطت فيه جماعة «الإخوان المسلمين». يوسف القرضاوي في مصر، وقرضاوي ليبيا - مصطفى الصلابي - في طرابلس الغرب. الجماعة عادت فنبذت العفو، ولجأت إلى العنف، حين ظنَّت كلمة أتباعها هي العليا.
مذبحة الأقصر تمثل أبشع أنواع الإرهاب، لا ينافسه في هذا إلا قطع الرؤوس. أبشع أنواع الإرهاب لأنه قتل بدم بارد، وجهاً لوجه، إنساناً بعد إنسان، لأشخاص مسالمين لا شبهة عداء من ناحيتهم. ضيوف مستأمنون جاؤوا إلى الزيارة. وهي بذلك كانت إنذاراً مبكراً للحضيض الذي سنراه على يد الإسلام السياسي. قتل 3000 شخص في نيويورك وواشنطن، تفجير المساجد والحسينيات، وقطع الرؤوس أمام الكاميرات.
في عام 1997 لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي ظهرت، بعض المنتديات وغرف الدردشة ليس إلا. لكن تبرير المذبحة من طرف خفي لم يتوقف. بالطريقة نفسها التي بررت بها محاولة اغتيال نجيب محفوظ، وقتل المفكر فرج فودة، ثم التفريق بين دكتور نصر حامد أبو زيد وزوجته.
التبرير لا يعني التأييد العلني. التبرير له طرق أكثر التفافاً. كإثارة نقاشات حول «وثنية المكان» وحول «سلوك السياح» بوجه عام، ومدى مراعاته لأعراف مجتمعاتنا. وهو أسلوب يوحي بأن هذا يبرر ذاك. «الإخوان المسلمون» بارعون في هذا النوع من إثارة البغضاء، وتجهيز الشباب لكي يتحول إلى قاتل باسم الإسلام، في فرع آخر من فروع الشبكة مخصص لهذا النوع من الأنشطة.
«الإخوان المسلمون» في سنة حكمِهم في مصر عادوا وعينوا عادل عبد الباقي، العضو في الجماعة الإسلامية المسؤولة عن المذبحة، محافظاً للأقصر، البلد التي شهدتها. مهما حاولت الجماعة لا تستطيع التغطية على طبيعتها الإرهابية.
أتعمد الإشارة إلى مذبحة الأقصر كل عام في ذكراها؛ لأن انقلاب الأجيال يدثر العبر. وظاهرة تجدد الإسلام السياسي المتطرف مع تجدد الأجيال ظاهرة تتغذى على النسيان. شباب السبعينات يجهلون ما فعله «الإخوان» في الأربعينات. ومن ولدوا في الستينات يجهلون مؤامراتهم في الخمسينات، وهلُم جرا. كل جيل يبدأ النقاش من بدايته، وينخدع بالشبهات من جديد. فيصدق أخبث مقولة نجح «الإسلامجية» في نشرها: أن القمع الذي تعرضوا له أدى إلى الإرهاب.
والحقيقة الثابتة بالتاريخ والورقة والقلم، أنهم هم من بدأوا الحلقة الجهنمية، فاغتالوا القاضي الذي ينظر قضيتهم، والمستثمرين والتجار الذين ينتمون إلى غير ديانتهم، والسياسي الذي يصر على أن يعملوا تحت بصر القانون لا خلف ظهره. كان مسعاهم من البداية أن يحتكروا العنف وتبريراته، فيتبنونه إن وافقهم، ويتبرأون منه إن خذل أغراضهم. وفي المقابل تكاسلنا في تخليد جرائمهم لكي يعرفها الشباب جيلاً بعد جيل، ولكي تلاحق المجرمين ذكريات جرائمهم.