عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

عودة الصراع الطبقي

ما يتبادر للذهن من العنوان، الذي ظهر في أدبيات فلسفة الاشتراكية في القرنين الماضيين، هو صراع تشنه الطبقات المسحوقة لرفع الظلم عنها، والمطالبة بحقوقها ضد استغلال أصحاب النفوذ والسلطة والأغنياء.
الصراع الطبقي، اليوم، كساعة رملية انقلبت لحساب بداية زمن جديد؛ فالشرائح العليا من أصحاب الامتيازات والنفوذ هم من بادروا بشن حملة شرسة على الطبقات الأقل حظاً في المجتمع.
ومثلما صاغ بعض مثقفي الطبقات الوسطى والعليا نظريات وفلسفة وشعارات الصراع الطبقي انحيازاً للفقراء في القرنين الماضيين، فإن مثقفي الطبقة المتوسطة في القرن الحادي والعشرين انقسموا بين أكثرية تعيد الصياغات اللغوية بتغيير المفاهيم المعروفة، لتبرر هجوم الأغنياء على الفقراء؛ وبين أقلية ترفع أقلامها، وأصواتها، دروع دفاع عن الطبقات المستهدفة.
مفكرو حركة التنوير كجون لوك، وإيمانويل كانط، وتشارلز لويس مونتسيكيو، وجان جاك روسو، مثالاً لا حصراً، دعوا لتغيير نمط اجتماعي اقتصادي عملت المؤسسات التقليدية، كالكنيسة والنظام الطبقي الاجتماعي والترتيبات السياسية على تكريسه حول الأفراد إلى سجناء شرائح وطبقات لا يستطيعون الانفكاك من قيودها، لتحسين وضعهم الاقتصادي. فلسفتهم وقتها لخصتها كلمات بسيطة: حرية، إخاء، مساواة، وعدالة.
بعد قرنين، نجد المؤسسة، أي النخبة من أصحاب السلطة والنفوذ، هي التي تبادر بالهجوم. شبكات صناعة الرأي العام، بتعقيدها الكلمات البسيطة لتصوغ فلسفة نظام شامل من نمط فكري وثقافي تفرضه على الأغلبية، تلعب اليوم دور الكنيسة قبل عصر التنوير عندما منعت التعبير عما يخالف العقيدة السائدة.
الحدثان الديناميكيان المستمران بتفاعلهما، كنموذج للصراع الطبقي الجديد، هما تصويت بريطانيا لـ«بريكست»، مع رفض النخبة ميسورة الحال (البريطانية والأوروبية والعالمية) القرار الديمقراطي.
الآخر حركة ما يسمي بـ«الطوارئ البيئية»، مع قيادة أبناء الأرستقراطية الأوروبية والطبقات المتميزة حركة «تمرد الفناء».
الصفات التي تنعت بها طبقة النخبة، المصوتين لـ«بريكست»، وأغلبهم من الطبقة العاملة، تحمل في طياتها الاحتقار والتقليل من الشأن ورفض المساواة.
من صوتوا لـ«بريكست»، «غير قادرين على فهم عواقب الخيار الذي صوتوا له!».
مصوتو «بريكست»، «عنصريون يكرهون الأجانب»، أو «رجعيون يرفضون السير مع حركة التاريخ إلى الأمام» وغيرها من صفات النظرة الدونية.
وعلى العكس، نماذج المحتجين في حركة «تمرد الفناء»، التي عطلت الطبقة العاملة عن السعي للرزق بإيقافها المرور، واعتراض حركة القطارات، احتجاجاً على التغيير المناخي التي لا تقدم لها أي حلول عملية، كلهم بلا استثناء من ميسوري الحال.
السيدة الأرستقراطية التي قادت المجموعة التي احتلت سوق الأسماك في لندن، وأدت إلى خسارة الباعة رزقهم اليومي، وقبض عليها ضمن عشرات من «مثيري الشغب» كانت الأميرة ماري - إيزميرالدا، ابنة ليوبولد الثالث ملك الدنمارك. أخلى بوليس العاصمة سبيلها بضمان الإقامة، وهو بيتها المطل على حديقة ريجنتس في شمال لندن، وثمنه 8 ملايين دولار.
الأخرى المقبوض عليها مرتين لتعطيل مطار مدينة لندن، ثم لتوقيف حركة المرور فوق كوبري لندن - التي «تزوجت» عليه رفيقتها، أثناء الاحتجاج أمام عدسات الكاميرات، كانت الأرستقراطية تامزين أموند، وتحمل لقب بارونة بالوراثة. تامزين كانت أطلقت موقعاً ضد رحلات الطيران الاقتصادية الرخيصة التي دونها لا تستطيع الأسر الفقيرة قضاء إجازات كانت حكراً على الأثرياء.
متمرد آخر في قائمة الشغب في إدارة البوليس من المجموعة التي تريد حرمان الطبقات الكادحة والفقراء من لعق فتات ما يتمتعون به أنفسهم، كان جورج مونبيو، من أسرة جي ليون، التي تمتلك المؤسسة الشهيرة، ولها مئات المطاعم والفنادق ومعامل صناعة الأغذية والفطائر الشهيرة.
الشاب السير جورج (لقب بالوراثة) مونبيو، قبض عليه عندما قاد مجموعة من «النباتيين الفيغيين» (الذين لا يتناولون أي منتجات حيوانية كالألبان والبيض) لاحتلال سوق سميثفييلد التي تسوق اللحوم للندن.
حكاية تاجر تضرر من احتلال السوق كانت مصدر فكرة هذا المقال. قال لـ«راديو لندن» إن «بيته اتخرب بفضل أولاد الذوات». «سأغلق المحل، فعملهم تركني عاجزاً عن دفع الفواتير وثمن ما أفسدوه من لحوم وبضائع». وأضاف: «في الماضي، عندما كان الأغنياء يحولون دون كسب الفقراء لأرزاقهم، كنا نسمي ذلك الصراع الطبقي، لكنهم أيضاً استولوا على اللغة وسموا هجومهم على الطبقة العاملة بـ(حملة البيئة)».
قصص احتجاج أدت لخراب بيوت الباعة والعاملين في سوقي اللحوم والسمك، وإغلاق المطارات، وتعطيل سير القطارات ومصالح الناس، يتبادلها أولاد الذوات كتسلية قضاء وقت. فهم لا يخسرون مليماً واحداً من هذه الاحتجاجات، بينما يكسبون الشهرة أمام عدسات التلفزيون وعلى صفحات الجرائد اليسارية.
مطلبهم الانتهاء كاملاً من الاعتماد على المحروقات بحلول عام 2025، بلا تقديم أي حل تكنولوجي لذلك، أو لإيجاد وظائف لثمانية ملايين من الطبقة العاملة مع مليونين في قطاعات الزراعة وصيد السمك يفقدون وظائفهم إذا نفذت الحكومات مطالب متمردي البيئة!
زعيمة حزب «الخضر»، كارولين لوكاس، ونائبته الوحيدة في مجلس العموم، بدت غير مرتاحة لسؤال في «بي بي سي»، الأحد الماضي، «متى كان آخر مرة سافرت بالطائرة؟».
طرح مقدم البرنامج السياسي الأسبوعي السؤال، لأنها وحزبها وحركة البيئة الذين احتلوا المطارات وعطلوا مصالح الناس، يدعون أن الطائرات، في فلسفتها المتزمتة كفاتيكان العصور الوسطى، أكبر مصدر لتلويث البيئة.
بعد التردد والحرج، قالت إنها سافرت لأميركا، قبل أسبوعين، لأن ابنها مقيم في أميركا، وهي «مضطرة» للطيران عدة مرات في السنة. وأضافت: «لا يجب أن تتحول المناقشة إلى مزايدة بين الأفراد، من يتسبب في تلويث البيئة أكثر من الآخر».
طالبت زعيمة «الخضر»، بفرض ضرائب باهظة على الطيران، لتجعل السفر به مساوياً لثمن السفر بالقطار الأقل تلويثاً للبيئة.
تذكرة رخيصة بالطائرة مثلاً إلى براغ أو مصيف إسباني أقل من أجرة التاكسي من وسط لندن إلى مطار هيثرو؛ بينما أرخص تذكرة بالقطار الأوروبي - والتبديل في باريس أو بروكسل - تزيد على ألف جنيه.
لم يخطر ببال المذيع، وهو مثل بقية نجوم «بي بي سي» من أبناء الذوات، ومرتبه يفوق مرتب رئيس الوزراء، أن يسأل زعيمة «الخضر»: «ولماذا لا تطالبين بتخفيض أثمان السفر بالقطارات الكهربائية، لتكون في متناول الفقراء، بدلاً من الضرائب التي تحرمهم من الإجازات والسفر ليعود قاصراً على القادرين؟».
ولم يسألها أيضاً عن مصدر تمويل 140 مليار دولار للطاقة الخضراء في 10 سنوات، فمجرد طرح السؤال يعتبر «كفراً» بأرثوذوكسية القرن الحادي والعشرين.