إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

المناضل سارق الورد

لنقل إن اسمها جورجيت. وهي أرملة فرنسية وفيّة، اعتادت أن تحمل آنية الأزهار إلى قبر زوجها، بانتظام، في مقبرة «أُوفير»، قرب باريس. لكن تلك الآنية كانت تختفي فلا تجدها عندما تعود في زيارة تالية. إن عادة السطو على المقابر ليست غريبة. والصحف المحلية كثيرا ما تنشر أخبارا عن لصوص مجهولين يسرقون الشواهد الرخامية أو الصلبان الفضية أو التذكارات التي يتركها أهل الفقيد.
في «جمعة الموتى» الماضية، مثلا، أعلنت شرطة مرسيليا عن تشديد دورياتها في مقبرة سان بيير، أكبر مقابر المدينة، لردع اللصوص الذين اعتادوا سرقة أواني الزهر الكثيرة التي يقدمها الأهالي في هذه المناسبة. وهناك تعبير جميل في اللغة هو «تزهير القبور». لكن اللصوص يسرقون النباتات مساء الجمعة ويبيعونها صباح الأحد في الأسواق الشعبية.
جورجيت لم تكن من النوع الذي يستسلم بسهولة. صحيح أنها تجاوزت سن الشباب، لكنها «متصلة»، كما يقول القوم هنا، أي تجيد التعامل مع وسائل الاتصالات الإلكترونية الحديثة. لهذا قررت أن تكشف السارق بوسائلها الخاصة. لقد زرعت في وعاء زهرة «الأورتونسيا» شريحة إلكترونية تسمح بتحديد مكان الوعاء وتنقلاته، شيئا يشبه الجهاز المثبت في السيارات للاستدلال على العناوين أو البرنامج الموجود في الهواتف الذكية ويساعد على تحديد الاتجاهات. ثم ذهبت كعادتها وزارت قبر الزوج وترّحمت عليه وتحادثت معه، أو تناقرت، وقد تكون صارحته بخطتها الجهنمية للقبض على سارق الورد وأوصته بأن يبقى ساكتا ويكتم السر.
جاء اللص المجهول وأخذ الأزهار ومضى. ومن بيتها تتبعت الأرملة حركة الوعاء، فإذا به يستقر وراء أسوار عنوان شهير في المنطقة. بل أشهر عناوينها قاطبة. إنه مقر المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، الذي يضم منظمة مجاهدين خلق، والموجود في بلدة «أُوفير» منذ عام 1980. ولم تتراجع جورجيت بل ذهبت، بكل عزم، وأبلغت شرطة المنطقة التي أرسلت معها أفرادا يستطلعون الأمر. وهناك، في داخل المقر، تعرفت على آنيتين للأزهار من تلك العائدة لها، بينها النبتة «الواشية» التي كشفت سارقها. ولدى السؤال عن مصدرها قال أحد «المجاهدين» إنه اشتراها، في الصباح نفسه، من السوق. لكنه تراجع عندما مدت الأرملة يدها وأخرجت الشريحة الإلكترونية التي دستها بنفسها في تربة الإناء.
جميل أن يسطوَ مقاتل أو معارض على زهرة. فقد مللنا من المناضلين الذين يسرقون شعوبا وأوطانا. وكان لنا جار أفتى، ذات يوم، بأن سرقة زهرة الرازقي حلال، خصوصا إذا أُهديَت إلى فتاة. إن الورد يطلع في الطبيعة متعة لكل البشر. لذلك لم أفهم تعنت السلطات الصينية التي اعتقلت أحد المسؤولين في الحزب لمجرد أنه اقتلع ثلاثين نبتة ورد من حقل عام وزرعها أمام بيته. كان ذلك في الربيع الماضي. وفي الربيع يمارس الورد سطوته علينا جميعا ويحرفنا عن جادة الصواب.
أليس حرامي الورد أفضل من «سارق الفرح» بطل فيلم داود عبد السيد الذي يحمل هذا الاسم؟ أو من لص الغفوة الهانئة الذي غنت له فيروز:
«مين من عيني سرق نوم الهنا
مين عن خدي مسح لون الشباب»؟
إنه، بالتأكيد، أرحم من ذلك الذي قال فيه شاعر المليون محمد بن فطيس المري:
«يا سارقا قلبي أتتك جوارحي
طوعا بلا أمر ولا استئذان»
أو الذي غنى له راشد الماجد: «يا سارق القلب ردّه لي ردّه». أو من الذي أنشدت له ألين خلف: «روح يا سارق الروح». من يقدر على صدّ سلّابة الأرواح ونهّابة القلوب؟
ولأن الحكاية تجر الحكاية، فلا بد من إلقاء التحية على بروميثيوس الحكيم، الذي تقول الأسطورة إنه سرق النار من جبل الأولمب، مخالفا أوامر زيوس كبير آلهة اليونان، وأعطى قبسا منها للبشر، يتدفأون به ويستكشفون الطريق. وقد استعار شعراء كثيرون أسطورة سارق النار، مثل عبد الوهاب البياتي وأحمد عبد المعطي حجازي ونزار قباني. وفي قصيدة «حوار ثوري مع طه حسين» يخاطبه نزار وكأنه ينطق بلساننا، اليوم:
«أيها الأزهري يا سارق النار
ويا كاسر حدود الثواني
عد إلينا، يا سيدي، عد إلينا
وانتشلنا من قبضة الطوفان».