مصطفى أحمد النعمان
سفير وكاتب يمنّيّ عمل وكيلا لوزارة الخارجيّة
TT

قرار الرئيس أسقطه السيد

انشغل اليمنيون خلال الأيام الماضية بقضية تكليف الرئيس هادي لمساعده الرئيسي الدكتور أحمد بن مبارك بتشكيل الحكومة، وهو أمر لم يعتادوا عليه خلال سنوات، فقد جرت العادة أن يجري الأمر دون ضجة ولا لغط، لكن الأمر اختلف وتراجع الرئيس عن قرار بهذه الأهمية لأول مرة في تاريخ الجمهورية، وصار واضحا أن المحيطين به ليسوا أكثر من مجموعة انتهازية لا تتجرأ على إبداء رأي صادق مفضلين الصمت في أفضل الأحوال، وتناثرت التعليقات والتحليلات وتناقضت الاستنتاجات بحسب الهوى والانتماء السياسي والمذهبي والمناطقي، لكن الجامع لها أنها أظهرت عمق الأزمة التي تمر بها البلاد منذ ثلاث سنوات وإن كانت مشاهدها قد اختلفت وتعددت أنماطها، فظل المواطن أسيرا لتناحرات الساسة والحزبيين، وعزوف المستشارين الجدد والقدامى عن شجاعة المواجهة الصريحة، واكتفى جميع هؤلاء بالهمس وتفادي الظهور بصورة مغايرة لأهواء الحاكم طمعا في استمرار رضاه وطلبا للاحتماء بالقرب منه.
في ظل الأزمات المتلاحقة ظهر «أنصار الله - الحوثيون» كلاعب جديد قوي على الساحة السياسية متحررين من القيود التي كبلت كل الموجودين بالقرب من الحاكم، وجعلت حركتهم أكثر مرونة وقدرة على التحكم في خيوطها، فقد جاءت قياداتهم من خارج الأطر التقليدية التي اعتاد عليها المواطن، وبحيوية وحماسة فقدها كل من يديرون المشهد بجوار الرئيس، وعلى الرغم من كل الأخطاء التي ارتكبتها الجماعة والممارسات القاسية التي أثارت انزعاجا لدى الكثيرين، فإنها حققت نصرا معنويا يسجل لها في قدرتها على التعامل مع الواقع وتمكنت من اكتساب مصداقية عند المواطن العادي الذي تمكنوا من بث الاعتقاد عنده بأنهم فريق يقترب من همومهم اليومية، ولذا كان إصرارهم على تنفيذ مطالبهم الأولى المتعلقة بمعيشة المواطنين مثالا لذلك، فقد أصروا على إسقاط الجرعة التي أقسمت السلطة إنها لن تتراجع عنها مهما كلف الأمر، وتم لهم ذلك رغم أن السلطة ربطت تخفيض الزيادات بالتوقيع على ما سمي باتفاقية السلم والشراكة الوطنية التي جاءت كل نصوصها مفروضة من «أنصار الله» وملبية لرغباتهم، وانبرى المنافقون للحديث عن الحكمة وبعد النظر لدى بقية الأطراف الموقعة وجاء المشهد المسرحي الذي أديرت به مؤشرا لميزان القوى الجديد الذي لا يمكن إنكاره لمجرد عدم الاقتناع به ورفض القبول بنتائجه.. ثم جاء انسحاب أحمد بن مبارك ليؤكد قدرتهم على فرض رؤيتهم سواء كانت حقا أم باطلا لكنها برهنت أن الرئيس بحاجة ماسة لتغيير أساليب أداء معاونيه وأن يفرض طوقا على محيطه الأقرب ليمنعه من التدخل في الشأن العام حتى لا تتكرر أخطاء سلفه الرئيس علي عبد الله صالح، وهو لا شك مدرك لها بحكم قربه الشديد في الماضي من تلك الممارسات التي أثارت سخط الناس، وربما حنقه هو شخصيا، فلا يجوز أن يعيد إنتاجها فيدفع ومعه الوطن ثمنا لها.
طيلة 33 عاما من حكم الرئيس السابق ومن بعده الرئيس هادي - خلال سنوات حكمه الثلاث الماضية - اعتاد المحيطون بالرئيسين، وخاصة الذين عملوا مع الاثنين، على إيجاد التبريرات لكل خطأ أو سوء، وتعاملوا مع الاثنين بالأسلوب الذي يبقيهم في دوائر الضوء والتأثير، وحماية ما تراكم من المصالح خلال العقود الماضية، ولا بد أن كثيرين صاروا يدركون سلسلة الأخطاء التي تراكمت خلال السنوات الثلاث الماضية، وهي بالمناسبة استنساخ مشوه لأخطاء العهد القديم، فمنهج العمل العشوائي لم يختلف واستمر إيكال الأمور الحيوية للدولة إلى الأقارب بغض النظر عن كفاءتهم وقدراتهم الذهنية والنفسية، ثم إن الاستحواذ تحت أي مبرر على مقدرات البلاد على القرار وتصور أن بيانات الدول العشر وتصريحات بنعمر قادرة على تثبيت الأوضاع الداخلية والسيطرة عليها ليست إلا كبناء قصر فوق رمال متحركة بغير أسس تحميه من الانهيار، وكان دور المحيطين سلبيا ونذيرا لكل المشهد المحزن الذي تمر به البلاد ونتيجة طبيعية لفتاواهم وتبريراتهم التي لم تبن على غير الهوى الشخصي والمصلحة الذاتية.
القرار الأخير للرئيس هادي أيده الكثيرون من اليمنيين وعدوه إقرارا بحقه في اختيار رئيس الحكومة الذي يرغب في العمل معه، ورأوا فيه أيضا تحديا لجماعة أنصار الله، وإصرارا منه على تمرير إرادته، ولكن التراجع عنه، وإن كان بصيغة اعتذار من المكلف، لن يقلل من الآثار السياسية وأخشى أن يصبح عادة ستصيب مقام الرئاسة بمقتل، وهنا كان واجبا على المحيطين بالرئيس دراسة تبعات اتخاذ أي قرار قبل الإعلان عنه، كما بلغت الحرب الإعلامية بين المؤيدين والمعارضين للقرار حدا تحولت فيه إلى اتهامات بالعمالة من الطرفين وتخوين من طرف لآخر وتبادل مسف لم يسلم منه طرف.. وهنا سيبقى السؤال الأهم: كيف سيدير الرئيس ورئيس الحكومة المقبل شؤون البلاد وهما يعلمان أن هناك طرفا يراقبهما ويحصي أنفاسهما ويمتلك أسباب القوة ولن يتخلى عنها وهي التي أثبتت أنها اللغة الوحيدة التي تقبلها السلطة وتخضع لها، حتى وإن تعارضت مع مصالح الناس، ومن المحتم في الفترة المقبلة أن يبذل المحيطون بالرئيس جهدا أكبر لاكتساب الشجاعة الواجبة للاعتراض عند الحاجة، وسيؤدي ذلك إلى ترشيد القرارات ونفي صفة الفردية عنها والنأي برأس الدولة عن الوقوع في مطبات لم يعد اليمن يمتلك ترفها.
الأوضاع التي سيرثها رئيس الحكومة المقبل لن يكون بوسعه تداركها مهما أوتي من عناصر الكفاءة والخبرة والحنكة ولن يستطيع إنجاز الكثير دون المرور بحقول الألغام التي زرعتها كل الأطراف خلال السنوات الثلاث الماضية، وسيتوجب عليه نزعها دون أن يكون مطلعا على الخريطة التفصيلية للمشهد السياسي اليمني بغير مبالغة في التقليل منها ومن واقعها على الأرض وسيكون عليه استعادة القيمة المعنوية للموقع بعد أن تشوهت صورته نظرا للسلبية التي لازمت رئيس الحكومة السابق وإسقاطه بالقوة، ثم تكرر المشهد مع د. بن مبارك الذي تعرض لحملة إعلامية ستكون مؤثرة على تصرفات الرئيس وأسلوب اتخاذ القرار ولعلها فرصة سانحة له أن يتخلى عن الذين أوقعوه في مواقف لا تصيبهم حتى برذاذ خفيف ولكنها تجعله مصدة لهم ولأخطائهم المتكررة منذ ثلاث سنوات.
ربما تكون الأزمة، التي اختنقت بها الساحة السياسية، قد طويت مؤقتا ولكنها ستتكرر مرات ومرات حتى يعود الرشد إلى الطبقة السياسية الحالية وتتعلم كيف تقترب من المواطنين ومعاناتهم بدلا من مواصلة العمل السري والخضوع لرغبات السلطة مقابل الصمت أو المصلحة، وأن تختار الزمن المناسب للتوقف عن العبث الذي مارسته لعقود طويلة وجعل البلاد عرضة للمحن المتتالية.