هال براندز
كاتب رأي من خدمة «بلومبيرغ» وأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة «جونز هوبكنز» الأميركية
TT

استراتيجية روسيا النووية قد تخرج بسهولة عن السيطرة

هل ستخوض الولايات المتحدة حرباً نووية لإنقاذ إستونيا؟ ربما يرى معظم الأميركيين هذا السؤال سخيفاً، فبالتأكيد لم يكن هناك من يفكر في مثل هذا الاحتمال عندما توسع الناتو ليشمل دول البلطيق في عام 2004، ومع ذلك تُظهر سلسلة تقارير من مؤسسة «راند» أن احتمال التصعيد النووي في نزاع بين منظمة حلف شمال الأطلسي وروسيا حول منطقة البلطيق قد بات أعلى مما قد يتصور أي شخص، لكن ما أفضل طريقة لتجنب هذه الحرب؟ الإجابة هي الاستثمار بشكل أكبر في الدفاع التقليدي للحلف.
وكانت هناك أوقات بدت فيها مخاطر نشوب حرب نووية بمثابة أمر متوقع، وذلك للحفاظ على قدسية الحدود الأوروبية، ومنذ اللحظة التي تم تشكيله فيها، اعتمد الناتو على التهديد بالتصعيد النووي، سواء أكان هذا التهديد سريعاً أم متقطعاً أم تدريجياً، وذلك للحفاظ على الردع، وقد كتب المفكرون الأميركيون نظريات مفصلة كثيرة حول الردع، وأجرت قوات الولايات المتحدة وحلف الناتو بانتظام تدريبات لمحاكاة اللجوء إلى استخدام الأسلحة النووية، وذلك لجعل هذه الاستراتيجية تحظى بالمصداقية.
وبعد انتهاء الحرب الباردة، باتت لدى الولايات المتحدة وحلفائها رفاهية التفكير بشكل أقل في الردع النووي والحرب؛ حيث تراجعت التوترات مع روسيا وأصبحت الاستراتيجية النووية وكأنها بقايا حقبة ماضية، لكن اليوم، مع صعود روسيا مرة أخرى باعتبارها تهديداً عسكرياً، فإن فكرة التهديد النووي الكئيبة قد عادت من جديد.
وقد كشفت الزيادة في التوترات بين روسيا والغرب على مدى نصف العقد الماضي عن مشكلة أساسية، وهي أن الناتو ليست لديه القدرة على منع القوات الروسية من اجتياح إستونيا ولاتفيا وليتوانيا بسرعة؛ حيث يتمكن الغزاة الروس من أن يصبحوا على أبواب عواصم البلطيق في خلال يومين إلى 3 أيام، وحينها سيتم تدمير قوات الناتو الحالية في المنطقة، وصحيح أنه يمكن أن يرد الناتو من خلال التعبئة لحرب أطول لتحرير دول البلطيق، لكن هذا سيتطلب حملة عسكرية دموية وخطيرة، وستتطلب مثل هذه الحملة ضرب أهداف مهمة، مثل أنظمة الدفاع الجوي الموجودة داخل روسيا نفسها، فضلاً عن كبح جماح المدفعية الروسية والصواريخ القصيرة المدى وغيرها من القدرات داخل جيب كالينينغراد، الذي يقع خلف الخطوط الأمامية لحلف الناتو.
وعلاوة على ذلك، فإن هذا النوع من الهجوم المضاد للناتو هو بالتحديد الموقف الذي يبدو أن الاستراتيجية النووي الروسية تهدف إلى تجنبه؛ حيث يدرك المسؤولون الروس أن بلادهم ستخسر في حال خاضت حرباً طويلة ضد الناتو، وهم قلقون بشكل خاص من إمكانية استخدام الناتو قدراته العسكرية التي لا تضاهى في شن ضربات تقليدية داخل الحدود الروسية، ولذلك أشار الكرملين إلى أنه قد ينفذ ضربات نووية محدودة في مكان ما في المحيط الأطلسي، أو ضد قوات الناتو، وذلك لإجبار الحلف على صنع السلام وفقاً لشروط موسكو، وهو المفهوم الذي يُعرف باسم «التصعيد الذي يهدف للتراجع»، وهناك مجموعة متزايدة من الأدلة على أن الروس جادون في ذلك.
ويمكن أن تصبح الحرب بين الناتو وروسيا نووية إذا قامت روسيا بالتصعيد للحفاظ على المكاسب التي حققتها في وقت مبكر من الصراع، كما يمكن أن تتحول إلى حرب نووية في ثانية واحدة، حال بدأت الولايات المتحدة وحلف الناتو توجيه ضربات نووية محدودة ضد القوات الروسية، لمنع موسكو من اجتياح البلطيق في المقام الأول، لكن حتى الاستخدام المحدود للأسلحة النووية قد يؤدي لمزيد من التصعيد، فهل سيؤدي عبور العتبة النووية، سواء من خلال الاختيار المتعمد أو سوء التقدير، إلى حرب نووية شاملة تنطوي على صواريخ باليستية عابرة للقارات وقاذفات استراتيجية ونهاية العالم؟
إذن، ما العمل؟ يتمثل أحد الخيارات في أن يتراجع الغرب عن التصعيد، أي أن يستنتج أن أي لعبة تنطوي على المخاطرة بحرب نووية في دول البلطيق هي لا تستحق العناء، فبعد كل شيء يمكن للولايات المتحدة أن تعيش وتزدهر في عالم تسيطر فيه روسيا على إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، تماماً كما نجت وازدهرت خلال الحرب الباردة، عندما كانت تلك الدول جزءاً من الاتحاد السوفياتي، لكن المشكلة هي أن الفشل في الدفاع عن دول البلطيق، من شأنه أن يقلل من ضمانات المادة 5 التي يستند إليها الناتو، والمتمثلة في أن الهجوم على واحد هو هجوم على الجميع، ويمكن لهذا الفشل أن يقوض نظام التحالف الأوسع الذي حقق السلام والاستقرار لعدة عقود.
والخيار الثاني، الذي شدد عليه البنتاغون في مراجعة الموقف النووي لعام 2018، يتمثل في ابتكار خيارات نووية محدودة جديدة كوسيلة لتعزيز الردع وإثناء روسيا عن اتباع استراتيجية التصعيد من أجل التراجع، فعلى سبيل المثال يمكن للولايات المتحدة أن تعمل على تطوير أسلحة نووية منخفضة المدى يمكن استخدامها، بطريقة محدودة نسبياً، ضد قوات الغزو الروسية أو الوحدات التي تدعمها.
وربما يكون هذا النهج مفيداً، لأنه سيساعد على ملء الدرجات المفقودة على السلم التصاعدي بين الصراع التقليدي والحرب النووية الشاملة، فإدراك المخططين الروس أن الولايات المتحدة لديها خياراتها النووية «التكتيكية» قد يضخ مزيداً من الحذر في حساباتهم؛ حيث يرى محللو «راند» أنه من الممكن أن تؤدي الضربات النووية المحدودة في وقت مبكر من نزاع بحر البلطيق إلى إقناع الكرملين بأن مخاطر الاستمرار ستكون غير مقبولة.
لكن المخاطر هنا تظل واضحة وشديدة، فهناك دائماً بعض الاحتمالات أن تعتقد روسيا خاطئة أن توجيه ضربة محدودة ضد أهدافها العسكرية في دول البلطيق هو جزء من ضربة نووية أكبر أو أكثر خطورة على روسيا نفسها، وإذا كانت الخطة تهدف إلى استخدام ضربات نووية محدودة ضد الأصول العسكرية الروسية المتورطة في غزو دول البلطيق، فإن ذلك يعني أن الناتو سيستخدم الأسلحة النووية على أراضي أعضائه.
والخيار الثالث وهو الأفضل هو تقوية القدرات التقليدية للحلف، فالسبب الأساسي لمعضلة الناتو النووية في دول البلطيق هي أن القوات التي تتمركز حالياً هناك لا يمكن أن تشكل دفاعاً موثوقاً به، ومع ذلك، كما أشارت دراسات سابقة، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها يمكن أن يجعلوا الحملة الروسية أكثر صعوبة وتكلفة، مع وجود فرصة ضئيلة للغاية للنجاح السريع، وذلك من خلال نشر قوة معززة تابعة لحلف الناتو، تتألف من 7 إلى 8 فرق قتالية، تضم نحو 30 ألف جندي.
فلا يمكن لروسيا أن تدعي بمصداقية أن هذه القوات تشكل أي تهديد هجومي حقيقي على أراضيها، لكن هذه القوات ستكون كبيرة وقوية بما فيه الكفاية بحيث لا تستطيع القوات الروسية تدميرها في لحظة أو تجاوزها في بداية النزاع، وبالتالي فإنها ستؤدي إلى تجنب كثير من ديناميات التصعيد النووي عن طريق جعل موقف الناتو أقل احتمالاً للهزيمة في منطقة البلطيق، ولن تكون تكلفة تطوير هذا الردع التقليدي في دول البلطيق قليلة؛ حيث تتراوح تقديرات التكاليف الأولية من 8 مليارات دولار إلى 14 مليار دولار، بالإضافة إلى مصروفات تشغيل سنوية من 3 مليارات دولار إلى 5 مليارات دولار، ومع ذلك، فإن هذه المبالغ ليست باهظة بالنسبة لأغنى تحالف في العالم.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»