أنطون مارداسوف
TT

هل تتغلب روسيا على «مقاومة» الأسد للحل السياسي

تميزت الأسابيع الأخيرة ببعض النجاحات العسكرية والدبلوماسية الروسية المهمة في سوريا. ويشمل ذلك دخول القوات الروسية إلى القواعد الأميركية السابقة في شمال شرقي سوريا، مع تقدم قوات بشار الأسد إلى أهم المرافق الحيوية في البلاد، سد الفرات، ونشر حرس الحدود السوري على الحدود السورية - التركية المشتركة في غضون ست ساعات فقط من المحادثات بين فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان.
وعلاوة على ذلك، تواصل الآلة الدعائية الروسية استغلال هذه الأحداث بكل نشاط ممكن. فمن جهة، تزيد وسائل الإعلام الموالية للكرملين التركيز على حقيقة أن هذه الإنجازات قد تحققت في فترة قياسية قصيرة. ومن جهة أخرى، فإنها تعارض العلاقات الروسية المتفاعلة مع دمشق على خلفية التعاطي الأميركي مع الأكراد في محاولة لتأطير حوار الأسد مع الكرملين كتحالف قوي وراسخ وقادر على تحقيق النتائج العملية في أرض الواقع، في حين، ووفقا إلى وسائل الإعلام الروسية، أنه لا يمكن الوثوق الكامل بالسلطات الأميركية، إذ أنه ثبت عنهم تخليهم عن حلفائهم بمنتهى السهولة وفق ما تقتضيه المصلحة.
وفي واقع الأمر، كانت الخسائر التي لحقت بسمعة الولايات المتحدة خارجياً كبيرة للغاية إثر قرار الرئيس دونالد ترمب سحب القوات الأميركية والتوقف عن إسناد المناطق الكردية في مواجهة التوغل العسكري التركي حتى من دون الحاجة إلى تلميحات وسائل الإعلام الروسية من موسكو. وهل يكون لقرار البيت الأبيض الإبقاء على عدد محدود من القوات الأميركية في سوريا بهدف السيطرة على آبار النفط في شمال شرقي البلاد، مع مواصلة ممارسة الضغط على الأسد وعلى إيران، أثر في استعادة الثقة الإقليمية بالوجود الأميركي في المنطقة. ومن المؤكد، لن يجعل هذا الأكراد يتناسون «الخيانة» الأميركية على أيدي دونالد ترمب سريعاً. وفي الأثناء ذاتها، استغل المفاوضون الروس الفرصة السانحة سريعاً من رأس الجسر الذي أقامته القوات التركية على الضفة الشرقية لنهر الفرات، ومن الواضح أنهم عرضوا على قوات سوريا الديمقراطية الكردية نوعاً من سيناريوهات المصالحة مع نظام بشار الأسد جرى اختباره من قبل بواسطتهم في جنوب غربي سوريا في عام 2018.
ومع ذلك، لا يمكن للإنجازات الروسية الأخيرة في الداخل السوري إخفاء حقيقة أن المشاكل الراهنة والتحديات المحتملة للوجود العسكري الروسي في سوريا لا تزال قائمة. أولاً، وكما يظهر من تجربة المصالحة السابقة في المناطق الجنوبية الغربية السورية، لن تكون موسكو قادرة تماماً على وقف القمع من جانب النظام السوري ضد عناصر المعارضة داخل الأراضي المحررة. ومما يُضاف إلى ذلك، من شأن الرحيل الجماعي للمنظمات غير الحكومية وإنهاء عمل المجالس المحلية أن يؤثر سلبياً على الأوضاع الاجتماعية في تلك المناطق، وهو الأمر الذي قد لا تعبأ روسيا بالتعامل معه على الإطلاق.
ثانياً، قد ترفع روسيا من مخاطر تكرار التجربة «السوفياتية» المزرية في أفغانستان، حيث كان الاتحاد السوفياتي غارقاً حتى أذنيه في مستنقع الصراع الدموي هناك، والذي استغرق فترة طويلة من الزمن مع الاستنفاد البطيء للغاية للموارد الاقتصادية والمالية للإمبراطورية السوفياتية المترامية الأطراف. وبموجب الاتفاقات الروسية - التركية الجديدة، تنتشر القوات العسكرية الروسية على مساحة واسعة للغاية من الأراضي. وكان من الممكن لموسكو في وقت سابق أن تعتمد في ذلك على المتطوعين، والشركات الدفاعية الخاصة، والقوات الخاصة، عندما تحتاج إلى زيادة الوجود العسكري الروسي بصفة مؤقتة على الأرض. ومع ذلك، يفرض الوضع الراهن الحاجة الماسة إلى موسكو وزيادة الوجود العسكري الروسي داخل سوريا بصفة دائمة من أجل الوفاء بالتزامات تأمين الأوضاع في شمال البلاد. وبالإضافة إلى الحفاظ على الوجود العسكري الحالي في محافظة إدلب ومناطق الدوريات العسكرية الأخرى، فإن اتفاقات بوتين وإردوغان وحدها التي تنص على مراقبة المناطق الثلاث المنفصلة على طول الحدود التركية - السورية. ومن شأن ذلك أن يستلزم ليس فقط انتشار العديد من كتائب الشرطة العسكرية مع ترتيبات تحديد المواقع المناسبة لانتشارها (مثل المعسكرات والثكنات، وما إلى ذلك)، وإنما انتشار البنية التحتية الداعمة مثل مهابط الطائرات المروحية، ومدارج الطائرات المسيّرة، وأطقم الدعم الفني الملحقة. وعلى المدى القريب، قد يكون من الضروري استقدام القوات الإضافية إلى محافظتي الرقة ودير الزور للمحافظة على خطوط وقف التصعيد أو الحد من التوترات الناشئة هناك.
ثالثا، وفي 23 أكتوبر (تشرين الأول)، بعد مرور ساعتين على ظهور أولى دوريات الشرطة العسكرية الروسية في القامشلي، وقع انفجار لسيارة مفخخة في نفس المدينة، مما يعني بكل وضوح تحول القوات الروسية لأهداف محتملة من قبل المعارضة المحلية أو خلايا تنظيم داعش النائمة، وسوف يكون من الصعب على الكرملين في ظل هذه الظروف أن يلتزم الحياد بقواته المنتشرة هناك.
وفي ظل السياق العام للسياسات الخارجية الروسية، تسمح النجاحات الأخيرة للحملة العسكرية الروسية في سوريا للكرملين بمتابعة تنفيذ استراتيجيته الرامية للعودة إلى منطقة الشرق الأوسط، التي تحمل أهمية بالغة بالنسبة للكرملين؛ إذ أنه منذ بداية الوجود العسكري الروسي في سوريا، تمكنت موسكو من تكثيف اتصالاتها بصورة غير مسبوقة مع الجهات الفاعلة الرئيسية الإقليمية وغير الإقليمية في المنطقة، ومن ثم، إجراء الحوار السياسي على قدم المساواة مع أغلب تلك القوى، وهو الأمر الذي طالما رغب الكرملين في تحقيقه بإصرار غريب إثر قرار ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014. ومع ذلك، كانت الأهمية الروسية بالنسبة إلى الجهات الفاعلة الرئيسية الإقليمية وغير الإقليمية في المنطقة تستند إلى ركيزتين: الوجود العسكري في سوريا ثم التوازن البراغماتي بين الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية. وساهم ذلك في تعزيز تصور بلدان الشرق الأوسط لروسيا على أنها القوة الثالثة ذات النفوذ والتأثير، والقادرة على الوساطة في الصفقات السياسية في المنطقة. ومنذ عام 2018 - 2019. برغم كل شيء، بدت الأمور كما لو أن ركائز النفوذ الروسي في المنطقة تشهد بعض الاهتزازات في بعض الأحيان.
تعني النهاية التدريجية لمرحلة الحرب «الساخنة» في سوريا أن الوجود العسكري الروسي في المنطقة بات يفقد أهميته بمرور الوقت مع تحول انتباه الجميع صوب المسار السياسي للنزاع القائم. وليس هذا من قبيل الأنباء السارة بالنسبة إلى موسكو، التي تتطلب بذل المزيد من الجهود للسيطرة التامة على المسار السياسي، حيث يمكن – على العكس من المسرح العسكري – لمختلف القوى الإقليمية أن تشكل تحديات في مواجهة طموحات الكرملين الكبيرة. وفي أكتوبر الماضي، تمكنت موسكو بالفعل من مساعدة دمشق على استعادة السيطرة على المناطق الكردية في سوريا، وبالتالي اعتبرت تلك المساعدة بمثابة رسالة إلى المنطقة بشأن القوة القادرة على تحديد معالم الأمور على أرض الواقع في تلك البلاد التي مزقتها الحرب تمزيقاً. ومع ذلك، وتحقيقاً لهذه الغاية، أحسن الكرملين استغلال الفرصة التي برزت إثر المصادفة العارضة التي خلقتها عدة عوامل مختلفة هناك (مقاربات دونالد ترمب في الشرق الأوسط، ومخاوف أنقرة من المناطق الكردية المتمتعة بحق الحكم الذاتي بالقرب من الحدود التركية، وما إلى ذلك من العوامل). ومن غير المتوقع لضربة الحظ الروسية الراهنة أن تتكرر في المستقبل المنظور؛ إذ باتت موسكو تلمس قدراً معتبراً من المعارضة الصامتة من جانب النظام السوري في دمشق، الذي لا يرغب حتى في الحد الأدنى من التغييرات السياسية المقترحة من جانب الكرملين.
* باحث روسي -
خاص بـ«الشرق الأوسط»