د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

بلاغة الإيجاز

انتشر فيديو لرئيسة وزراء لنيوزيلندا جاسيندا أردرن فيه ما سمته «تحدٍ وضعه لها فريقها» بمناسبة مرور عامين على تشكيل حكومتها، بحيث تتلو إنجازاتها خلال ما لا يتجاوز دقيقتين. فانطلقت في السباق ولكنها حينما بلغت الثلاث دقائق اعترفت بأنها خسرت الرهان وأن إنجازات الحكومة يصعب اختصارها في 120 ثانية! واضح أنها كانت محاولة ذكية جديدة في خطة علاقاتها العامة، ذكرت فيها كمية كبيرة جداً من الإنجازات. غير أن ما يهمنا هنا كيف يمكن أن يذكر المرء معلومات بهذا الحجم في دقائق معدودة.
صرنا في زمن أحوج من أي وقت مضى لتعلم فنون الاختصار لأنه مؤشر من مؤشرات البلاغة الفردية. ولذا فإن أول نصيحة يُهْمَس بها في أذن من يعتلي منبراً أو مسرحاً أن يتدرب جيداً على الالتزام بالوقت المسموح، تماماً كما كان يتدرب رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قبيل أول خطاب له، وقد شهد تدريبه فريقه في اجتماع مغلق.
وفن الاختصار ليس سهلاً، فالمتحدث يحتاج إلى تدريب مكثف في الخطب، والمقالات، والكتب، واللقاءات الاجتماعية غير الرسمية وكل إطلالة على الشاشات الصغيرة والكبيرة. وعليه فإننا صرنا بحاجة إلى إدخال هذا الفن في مدارسنا. فلم يعد لدى الناس متسع من الوقت للاستماع إلى استعراض أو حشو كلامي فارغ. مشكلة المتحدث أنه لا يشعر بالملل لأن ذهنه مزدحم بالأفكار عكس المستمع الذي ينتظر دوره في الحديث بفارغ الصبر، لعل المتكلم يمن عليه بلحظات صمت يعبر من خلالها المستمع عن رأيه.
هذه قضية في غاية الأهمية لأن دراسة قامت بها جامعة لندن أظهرت أن من يعيشون في المدن صار لديهم مشتتات ذهنية أكبر ممن يعيشون في قرى نائية، وذلك وفق هذه الدراسة التي عكفت على دراسة قبيلتين أفريقيتين لتكتشف أن القبيلة «الحضرية» أكثر تشتيتاً ذهنياً من تلك التي عاشت في القرية حيث الملهيات أقل.
والمشكلة ليست في عوام الناس، بل حتى في كثير من خطباء المساجد الذين يسهبون في خطبة مليئة بالعبارات المكررة في الخطبة الواحدة وتمتد إلى 40 دقيقة! شخصياً حاولت قراءة خطبة الوداع الشهيرة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بسرعات مختلفة ثم حسبت معدل السرعة فوجدتها لم تتجاوز 7 دقائق رغم أنها تكاد تكون أهم خطبة وخاتمة الخطب. إذن المشكلة تحتاج إلى تدريب.
والأهم أن ترفع مدارسنا الوعي وتكثف القراءة الحقيقية عبر برامج ذكية تدعمها كبريات الشركات والمنظمات المهتمة لتتحول القراءة إلى هواية سائدة، لأن القراءة ينبوع المعرفة. ولعل هذه الثقافة تسهم في تحسين خطاب الناس وتقليل الإسهاب الذي صار يرافق كل «سطحي» يحاول أن يقنع من حوله بأنه جدير بآذان صاغية. أما القارئ الحقيقي فيميل إلى انتقاء ما يتحدث عنه أو يستمع إليه. وكلما كان المتحدث مدركاً أنه أمام أناس مطلعين وواعين سيفكر ألف مرة قبل أن ينبس ببنت شفة، لأن الناس ستكون له بالمرصاد.
والأهم من ذلك كله هو أن ندرك ونُوَّعي أجيالنا على أن الاختصار صورة من صور حسن التعبير وقوته، وخير الكلام ما قل ودل. ونحن كعرب أولى بالاختصار من غيرنا. فشطر صغير من أبيات المتنبي أو دواوين العرب يلخص لك فصولاً في علم النفس أو الحكمة التي لم تعد ضالة المتحدثين. والقرآن الكريم نفسه نزل تحدياً لأمة اشتهرت بحسن الإعراب عن نفسها ببلاغة منقطعة النظير.
فنحن بحاجة إلى العودة لمجدنا السابق في بلاغة الاختصار. وعندما سُئل عميد الأدب العربي الجاحظ ما البلاغة؟ قال: «الإيجاز».