يوسف الشريف
كاتب متخصص بالشؤون التركية
TT

السيادة والمقاومة بين تركيا ولبنان

شهدت تركيا عامي 1999 و2001 أزمتين اقتصاديتين خانقتين كادتا تدفعان البلاد إلى الإفلاس، وقع ذلك رغم حصول تركيا على الترشيح للعضوية في الاتحاد الأوروبي عام 1999 وتحقيقها انتصاراً عسكرياً وأمنياً كبيراً بإلقائها القبض في العام نفسه على عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني الذي قاد حرباً دامية ضد الجمهورية التركية منذ عام 1984. الأزمتان كانتا نتاج تراكم سياسات اقتصادية قاصرة نتيجة الحكومات الائتلافية قصيرة العمر، وانتشار الفساد المالي في المؤسسة الحكومية والقطاع العام. كان الشغل الشاغل للسياسي حينها هو الحفاظ على بقائه في السلطة والاستفادة منها مالياً قدر الإمكان، أما الخطط الاستراتيجية الحقيقية التي كان من شأنها أن تخرج تركيا من أزمتها، فلم تكن أبداً على أجندة هؤلاء السياسيين بسبب الوصاية العسكرية التي كانت تفرض على أي حكومة سياساتها الخارجية، وأولوياتها الداخلية، حيث كان لا صوت يعلو على صوت الرصاص، في حالة المواجهة مع حزب العمال الكردستاني، الذي عُدَّ الخطر الأكبر على أمن تركيا القومي.
كانت القيادة العسكرية تتحكم وتتدخل في كثير من التعيينات المهمة والقرارات المفصلية، باتجاه أولوية الحفاظ على الأمن القومي والعلمانية الكمالية، حيث كان الولاء يأتي على حساب الخبرة في هذه التعيينات، ما فتح الباب واسعاً للفساد وإهمال المحاسبة. تدخلات الجيش التي أدت إلى إطاحة حكومة نجم الدين أربكان عام 1997، أفضت إلى تشكيل حكومات ائتلافية لا تحظى بدعم الشارع، أولويتها كانت تنفيذ أوامر الوصاية العسكرية، ما حرمها من فرصة حل القضية الكردية سياسياً بعد القبض على أوجلان. لكن صعوبة الوضع الاقتصادي دفعت الجميع بمن فيهم المؤسسة العسكرية إلى مراجعة حقيقية للوضع، فالشارع بدأ يتحرك في مظاهرات تحتج على الفساد والأزمة الاقتصادية، غير آبهٍ بالنصر القومي الكبير على زعيم حزب العمال الكردستاني، وهو النصر الذي ضاع أثره سريعاً في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، والجيش أدرك أنه مع هذا الوضع الاقتصادي لا يمكنه أن يحصل على السلاح الذي يريد شراءه، ولا الحظوة المالية التي كانت تتمتع بها قياداته، وأن الشارع بدأ يدرك أثر تدخلاته ووصايته على العملية السياسية ومخرجاتها. هنا اضطر رئيس الوزراء حينها الراحل بولنت أجويت للجوء إلى صندوق النقد الدولي مجدداً، لكن الصندوق شرح لأنقرة أنه لا يمكن جذب الاستثمارات الخارجية، بينما القضاء والعدالة غائبان وتحت ضغط التدخلات السياسية والعسكرية، وفي ظل انتشار الفساد وغياب القدرة والنية على المحاسبة. لذا وافق أجويت على شرط الصندوق ابتعاث كمال درويش الذي كان يعمل منذ عام 1977 في البنك الدولي، وزيراً مستقلاً للاقتصاد بصلاحيات واسعة في حكومته كضامن لتحقيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية المطلوبة من أجل إنقاذ الوضع الاقتصادي، وضمان أن القرض الجديد الذي سيمنحه الصندوق لن يذهب إلى جيوب السياسيين أو رجال الأعمال المقربين منهم أو من الجيش. حينها علت أصوات تتساءل عن السيادة والكرامة الوطنية في قبول شرط الصندوق في فرض رجل من التكنوقراط ضابط إيقاع للاقتصاد التركي ومراقباً على أداء الإصلاحات السياسية المطلوبة، وأن درويش هو ممثل «للإمبريالية الرأسمالية الغربية» وأن شروط الإصلاح التي فرضها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي هي خطة غربية للسيطرة على القرار الوطني. لكن على العكس مما توقعه الجميع، تقبلت المؤسسة العسكرية هذا التدخل الدولي، لأنها أدركت أن «الأسد الجائع لا يمكنه أن يقاتل وهو محكوم بسقوط أنيابه ومخالبه مع الوقت». أدركت السلطة الحاكمة في تركيا حينها - بوازع وطني - أن القوة الحقيقية والسيادة والكرامة لا تتحقق في ظل اقتصاد منهار ومواطن عاطل عن العمل غير قادر على توفير حياة كريمة لعائلته، وأن الفقر يدفع المواطن لاختصار معنى الوطنية في توفير لقمة العيش لعائلته دون التفكير في مصلحة غيره أو مصلحة الوطن. كان المشهد غريباً حقاً على شعب عرف بارتفاع درجة «العزة القومية» بين أفراده والتغني بمثالب أجداده وتاريخ الإمبراطورية العثمانية، وهو يقبل ولو على مضض شروط المؤسسات الدولية الاقتصادية والاتحاد الأوروبي لتقديم يد العون والمساعدة. لكن الحكمة غلبت على الشعارات القومية الرنانة، وكان ذلك خيراً على تركيا التي نهضت اقتصادياً من جديد ودخلت بعد ذلك نادي الدول الصناعية الكبرى وأكبر الدول في معدل النمو الاقتصادي، بعد الإصلاحات الجذرية التي أقرها كمال درويش، وسار على خطاها حزب العدالة والتنمية في سنواته الأولى، فسددت تركيا قرض صندوق النقد الدولي، وضاعفت ناتجها القومي، ومكنها ذلك من أن تتحول إلى لاعب إقليمي مهم في المنطقة، حتى يستذكر وزير خارجيتها في تلك الحقبة أحمد داود أوغلو ذلك الوضع بقوله إن «تركيا كانت أشبه بعملاق ذي عضلات لكن معدته خاوية، فلما أصلح هذا الخلل الجسيم عاد للنهوض من جديد». كانت تلك هي الحقبة الذهبية لتركيا وحزب العدالة والتنمية، حتى عادت تركيا بسياسات الرئيس رجب طيب إردوغان إلى ما يشبه حقبة التسعينات اعتباراً من عام 2013. مع عودة انتشار الفساد والشعارات القومية الرنانة ومشروع العثمانية الجديدة، فتوازى تراجع الاقتصاد، مع ما تشهده تركيا من ابتعاد عن حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير وخضوع مؤسسة القضاء للوصاية السياسية، وارتفعت شعارات التحدي للمجتمع الدولي وأولوية الأمن القومي الذي في خطر، حتى باتت تركيا اليوم على أعتاب أزمة اقتصادية جديدة يرى كثير من المراقبين أنها ستكون أسوأ من سابقاتها، وأن ليس في استطاعة حكومة الرئيس إردوغان اليوم سوى العمل على تأجيل وقوع هذه الأزمة، من خلال تدابير آنية قصيرة الأمد تنقذ يومها وتزيد من العبء والخطر على مستقبلها.
أستذكر هذه العبرة ونحن نشاهد اليوم المظاهرات في لبنان، وكيف يدفع حزب الله بأنصاره إلى قمع المظاهرات التي تطالب بإنقاذ الاقتصاد وتوفير الحياة الكريمة للمواطن والقضاء على الفساد. بينما كان الأحرى والمتوقع ممن يرفع شعار المقاومة والسيادة الوطنية أن يكون في مقدمة صفوف المطالبين بالإصلاح الاقتصادي ولو كان على يد تكنوقراط مستقلين يوفرون الظروف والشروط السياسية لوصول الدعم الدولي لإنقاذ لبنان من محنته، فلبنان المفلس لا يمكنه أن يوفر الدعم للمقاومة، واعتماد المقاومة على التمويل الخارجي لا يمكن أن يوفر السيادة ولا الكرامة الوطنية. فجميع حركات التحرر والمقاومة على مدى التاريخ كانت وطنية وبتمويل وطني، ولا يمكن أن تكون أجندة حركات المقاومة منفصلة عن أجندة رجل الشارع والمواطن، وإلا فعمن تدافع هذه المقاومة؟ وبمن تشد أزرها؟ حركات المقاومة والتحرير الوطنية الحقيقية هي التي تدرك أن الاقتصاد هو الرافعة الأساسية لدعمها وبقائها، أما الارتهان للتمويل الخارجي وترك المواطن دون كهرباء وخدمات لرفع النفايات فلا يحقق الكرامة ولا السيادة للمواطن، إلا إذا كان معنى المقاومة المقصود هو مقاومة تغيير الوضع الراهن.