ليس فقط لأنه اشترط تنفيذ ما هدد به بموافقة دولية و«بغطاءٍ» من حلف شمال الأطلسي، بل ولأنه بقي يتعامل مع الأزمة السورية المتفجرة بأسلوب التردد نفسه الذي اتبعه الرئيس الأميركي باراك أوباما، فالرئيس التركي بدأ شديد الحماس لإسقاط نظام بشار الأسد، وبدأ متعاونًا مع المعارضة السورية وداعمًا لها، لكنه ما لبث أنْ أصيب بالوهن السياسي وبالوهن العسكري أيضا، وإلى حدِّ أنه لم يستطع الرد على أي من استفزازات نظام دمشق المتكررة له ولبلاده، ولهذا فإن هناك من يشكك بإمكانية تحقيق الوعد الذي قطعه على نفسه قبل أيام. وحقيقةً، ومع أن حدود تركيا الجنوبية مع سوريا تشهد الآن تحركات عسكرية غير عادية، ومع أنها تشهد الدفع بالمزيد من أرتال الدبابات التركية، فإنَّ هناك من يشكك بتهديد ووعيد رجب طيب إردوغان ومن يتوقع ألاَّ تتجاوز الأمور ذلك المثل القائل: «كلام الليل يمحوه النهار».
إنه غير متوقع بالنسبة للبعض أنْ يُقحم رجب طيب إردوغان نفسه ويقحم بلده وجيشه في حرب إسقاط نظام بشار الأسد التي ستكون حربًا طاحنة وطويلة ما لم يؤمِّن سلفًا غطاءً دوليًا كافيًا وغطاءً من حلف شمال الأطلسي، وما لم يؤمِّن تفاهمًا مع روسيا ومع إيران، وما لم يضمن دعمًا واضحًا يصل إلى حدود المشاركة في هذه الحرب من قبل الدول العربية الفاعلة والمجاورة.
لقد أكد رجب طيب إردوغان في كلمته التي افتتح بها الدورة الجديدة لبرلمان بلاده على ثلاث قضايا كلها في غاية الخطورة والأهمية؛ أولها الإطاحة بنظام بشار الأسد مع الحفاظ على وحدة سوريا، وثانيًا إقامة مناطق محمية داخل الأراضي السورية، وثالثًا إعادة مليون ونصف المليون من اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وهنا ما تجدر الإشارة إليه هو أنَّ التصويت البرلماني على هذا الذي قاله الرئيس التركي، الذي عنوانه المشاركة في التحالف الدولي الذي شكلته الولايات المتحدة لمواجهة «داعش» ومقاتلة الإرهاب، قد جاء كاسحًا وربما غير متوقع، وهذا يعكس حقيقة أن الغالبية الشعبية في تركيا ترى رأي رئيسها نفسه بالنسبة لهذه المسألة المصيرية الخطيرة.
ثم وإنَّ ما تجب الإشارة إليه أيضا هو أن رجب طيب إردوغان، الذي لا شك في أنه يعرف توجهات شعبه معرفة أكيدة قد تقصد طرح مسألة إسقاط نظام بشار الأسد على برلمان بلاده من أجل تمرير عددٍ من المسائل الأخرى من بينها إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، ومن بينها إقامة مناطق محمية عازلة داخل الأراضي السورية، وأيضا من بينها وقبل هذا وذاك، الاشتراك في التحالف الدولي الذي أقامته الولايات المتحدة لضرب «داعش» والمشاركة في العمليات الجوية التي تنفذها بعض دول هذا التحالف ضد التنظيمات الإرهابية.
والسؤال هنا وذلك رغم كل هذا الذي قيل آنفًا هو: هل إن رجب طيب إردوغان يا ترى جادٌ في إسقاط نظام بشار الأسد ليس من خلال مجرد تقديم المزيد من الدعم العسكري والسياسي و«اللوجيستي» للمعارضة السورية (المعتدلة)، وإنما بالقوة العسكرية المباشرة أمْ أنه في النهاية سيفعل ما فعله غيره وسيبادر، بعد توفير المبررات اللازمة، إلى «لَحْسِ» كل ما وعد به ووضْع رأسه بين كل الرؤوس «المطأطئة» والقول: «يا قطَّاع الرؤوس»؟!
إنها مسألة، أي مسألة إسقاط النظام السوري، في غاية الصعوبة والخطورة.. وربما «التهور» أيضا، وبخاصة إذا بقي دعم رجب طيب إردوغان متوقفًا على عدد محدود من الدول العربية من بينها المملكة العربية السعودية والأردن ودولة الإمارات ومملكة البحرين، وبخاصة أن الوضع الإقليمي غير مشجع على الإطلاق ما دامت إيران، التي لا تزال تحتل العراق احتلالا مباشرًا، والتي تحتل سوريا وتمتلك القرار اللبناني، تعتبر أن إسقاط هذا النظام إسقاطًا لمشروعها التمددي في الشرق الأوسط كله، ولذلك فإنها ستبقى تقاتل دفاعًا عن نظام تعتبره نظامها حتى وإن اقتضى الأمر نقل كل جيوشها وكل ميليشياتها وكل إمكانياتها المالية إلى الأراضي السورية.
لكن عندما نعرف أنَّ رجب طيب إردوغان قد أبدى استعدادًا بتصميم بلا حدود لإسقاط نظام بشار الأسد في أحد اجتماعات قمة «ويلز» الأخيرة الجانبية، وأنه تلقى دعمًا مؤكدًا من الولايات المتحدة ومن بعض الدول العربية وبعض دول الاتحاد الأوروبي، فإنه علينا أن ندرك أنَّ هذه المسألة ليست مجرد مناورة عابرة هدفها الاستهلاك الداخلي، وإنما هي مسألة جادة وجدية، فتركيا ليست دولة ثانوية تبحث عن دور لها في «ذيْل» معادلة إقليمية ودولية طارئة، ورجب طيب إردوغان الذي وصل إلى موقع رئاسة أهم دولة في هذه المنطقة وواحدة من أهم دول العالم بزخم شعبي كاسح ومميز ليس بحاجة إلى ألاعيب ومناورات ساذجة ولا إلى رفع هذا الشعار المدوي ثم التراجع عنه وكأن شيئًا لم يكن وكأن كل هذه التحديات التي تواجهها بلاده نتيجة تفاقم الأزمة السورية غير موجودة!!
إن ما يعرفه رجب طيب إردوغان معرفة أكيدة هو أن بقاء نظام بشار الأسد سيعني، إنْ عاجلًا أو آجلًا، أن إيران ستصبح تطوق بلده بنفوذها وأيضا بوجودها المباشر من معظم الجهات وأنها لن تتردد بمجرد استتباب الأمور لها في العراق وفي سوريا، وبالتالي في لبنان، أن تفعل في تركيا ما تفعله الآن في اليمن، وبخاصة أنها لن تعْدم الأنصار والمكونات الطائفية لتلعب في الشؤون الداخلية التركية كما تلعب هي الآن في الشؤون الداخلية اليمنية، فالعلاقات بين تركيا (العثمانية) وإيران (الصفوية) مثقلة بالهموم وبذكريات الحروب الطاحنة.
ثم وحتى وإنْ تراجع رجب طيب إردوغان عما قاله في برلمان بلاده وبادر إلى «لَحْسِ» كل ما وعد به بخصوص إسقاط بشار الأسد فإن القوى الفاعلة في تركيا، كحزبه، حزب العدالة والتنمية، وكالجيش التركي الذي يتحلى بنزعة قومية راسخة ومميزة، لن تقبل ببقاء هذا النظام السوري الذي من المعروف أنه لعب كثيرًا في الساحة التركية خلال الأعوام الأربعة الماضية مستغلًا بعض العوامل الطائفية وبعض العوامل «الإثنية» القومية المعروفة.
وهكذا، فإنه ليس بإمكان رجب طيب إردوغان، الذي يستطيع استخدام وجود أكثر من مليون ونصف المليون من اللاجئين السوريين على أرض بلاده كمبرر لإسقاط نظام بشار الأسد، أن يغمض عينيه عما يجري في هذه المنطقة، وكذلك فإنه ليس بإمكانه أن يترك إيران لتستكمل مشروعها التمددي في الشرق الأوسط كله من خلال بقاء هذا النظام ومن خلال التلاعب بالمعادلة التركية الداخلية الطائفية والقومية، ولذلك فإنه لا مجال أمام الرئيس التركي إلا أن يبرَّ بالوعد الذي قطعه على نفسه أمام البرلمان التركي وأن يطيح بنظامٍ إنْ هو لن يطيح به فإنه سيلجأ حتما إلى تصدير الكثير من المشكلات وأوجاع الرأس إلى تركيا وإلى هذه الحكومة التركية.
16:25 دقيقه
TT
إردوغان في مأزق ولا يستطيع «لَحْس» وعده بإسقاط الأسد!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة