د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

«النفس الأوتوقراطي»!

حينما تدخل مؤسسة ما أو إدارة ما، قد تشتم منها «رائحة أوتوقراطية». فما إن تطلب شيئاً أو تقترح فكرة ما حتى تجد من حولك يتبادلون نظرات مبهمة، وكأنهم ليسوا معنيين بكلامك. ولسان حالهم المثل الشعبي «قال: انفخ يا شريم، قال ما من برطم»، و«البرطم» هو الشفاه، وكيف ينفخ من ليس لديه شفاه أصلاً (أو صلاحيات).
مشكلة هذه البيئة أن صاحب القرار «الأوتوقراطي» (المتسلط) يحتكر لنفسه الصلاحيات كافة، رغم مرونة اللوائح الداخلية التي تخوله توزيع المهام. ويصادر حق الموظفين في التفويض الذي يعد سبباً أصيلاً للتعلم التطبيقي. ولذا يندر أن تجد تحت المتسلط أو محتكر الصلاحيات صفاً ثانياً. وهذا ما يجعل من حوله يفقدون - بمرور الوقت - الرغبة في المبادرة والاقتراح وتقديم الحلول البناءة، حتى لا يصطدموا بموقف مسؤولهم «المتزمت» تجاه مبادرات لا تدور في فلكة ما يستسيغه.
مشكلة «النفس الأوتوقراطي» أنه يبدأ من الأعلى إلى الأسفل، فيتغلغل تدريجياً في المنظمات. لأنه عادة ما يعيِّن القيادي الأوتوقراطي من هم على شاكلته كمديرين، فيفاقمون بدورهم معاناة المرؤوسين تحتهم في بيئة خانقة تقتل الإبداع.
ومشكلة الأوتوقراطيين، وهم درجة من درجات الاستبداديين، أنهم لا يثقون بمن حولهم، ويفتقرون إلى بناء وشائج من المودة مع الآخرين، لإفراطهم في احتكار العمل. يميلون إلى مسرح الشخص الواحد (one man show)، كما يسميه الأميركيون. ولا تظهر على خشبة مسرحهم مواهب جديدة لأنهم لا يرحبون أصلاً بنجوم جدد.
من ينجح في اختراق دائرة الأوتوقراطيين هم من قرروا السمع والطاعة، فتتحول عقولهم وخبراتهم المتراكمة إلى هباء منثور، لأنهم صاروا مجرد أشخاص منفذين. وهو دور يمكن أن يتصدى له أي شخص يمتلك ربع مواهبهم.
ومن الأسباب الكامنة وراء بروز المسؤولين الأوتوقراطيين (المتسلطين) عدم ثقتهم بالناس. وقد تكون سطحية معلوماتهم وخوفهم من الآخرين هو ما يدفعهم نحو هذا التوجه الحاد. وعلى النقيض قد يكون الإفراط بإعجابهم بأنفسهم يجعلهم لا يرون فيمن حولهم شيئاً يستحق الاهتمام أو حسن الإصغاء.
وعلى الرغم من ذلك، يبقى النمط الأوتوقراطي محبذاً لدى البعض في حالات محددة، مثل تراخي العاملين، أو تقاعس فريق العمل، رغم الملاحظات العديدة المرسلة إليهم. هنا يتدخل المسؤول بقوة، ليعيد الأمور إلى نصابها، ويظهر الوجه الآخر لمهاراته وحزمه.
كل مسؤول لديه الحرية في اختيار الأسلوب الذي يراه مناسباً. إلا أن الإطالة في التعامل مع الآخرين «بنفس أوتوقراطي» سلطوي حاد هو أسرع وصفة لنفور الموظفين ووأد ما تبقى من مواهب واعدة في الصف الثاني.