د. عبد العزيز حمد العويشق
الأمين العام المساعد للشؤون السياسية وشؤون المفاوضات في مجلس التعاون الخليجي.
TT

هل تدفع الإجراءات ضد ترمب إيران إلى مغامرة جديدة؟

على الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلها الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، وقادة أوروبيون آخرون، فقد فشلت محاولاتهم لترتيب لقاء بين الرئيسين الأميركي والإيراني على هامش الدورة «74» للجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد يكون الأوروبيون مُحقّين بشأن رغبة ترمب وروحاني من حيث المبدأ في عقد اجتماع لمناقشة تعديل الاتفاق النووي ودور إيران في المنطقة، لكن اشتراط إيران رفع العقوبات أفشل تلك المحاولات.
هناك أسباب أخرى لذلك الفشل، أحدها الملاسنة الكلامية غير المباشرة بين الرئيسين في نيويورك. فحين ألقى الرئيس ترمب كلمته في اليوم الأول (24 سبتمبر - أيلول) خصّ إيران بانتقادات حادة بسبب دعمها الإرهاب وأنشطتها «الشريرة» في المنطقة، وتوعّدها بتشديد العقوبات، وحذّر الدول الأخرى من توفير الدعم المالي لـ«شهوات إيران الدموية».
وفي اليوم الثاني لافتتاح الجمعية العامة، شنّ روحاني هجوماً شرساً على «العدوان» الأميركي، مُتّهماً ترمب بـ«الإرهاب الاقتصادي»، وزرع الفرقة والصراع في المنطقة. ولم يبدُ على روحاني أنه كان يُدرك سخرية المفارقة في حديثه، فهو الذي أمر قبل 11 يوماً فقط من إلقائه لكلمته بالهجوم غير المسبوق على منشآت النفط السعودية، فضلاً عن دعم بشار الأسد في حملته الدموية على الشعب السوري التي أودت بحياة نصف مليون مدني وتشريد ملايين من الأبرياء، وتسليح الميليشيات في العراق ولبنان واليمن وإذكاء الفتنة الطائفية والحروب الأهلية في تلك الدول.
فكيف يجتمع الرجلان وقد أوسع كل منهما الآخر انتقاداً وتقريعاً؟
ولكن ربما كان أكثر الأسباب أهمية هو بدء مجلس النواب الأميركي في التحقيق في علاقة الرئيس ترمب بأوكرانيا، وما إذا كانت تصرفاته تستدعي محاكمته بتهمة إساءة استخدام السلطة لتحقيق مكاسب سياسية. وقد اندلعت أخبار هذه الحادثة خلال الفترة التي كان الرئيس الفرنسي يسعى فيها لعقد اجتماع بين ترمب وروحاني.
من وجهة النظر الأميركية، فإن الاجتماع مع روحاني أصبح مخاطرة غير معروفة العواقب في هذه الفترة الحرجة، فقد ينقلب سلباً على ترمب إذا لم يتمكن من تحقيق نتائج إيجابية.
ولكن من وجهة نظر خليجية، فإن ما يثير القلق هو أن القيادة الإيرانية قد ترى في إجراءات التحقيق التي يقوم بها مجلس النواب الأميركي بخصوص ترمب نقطة ضعف يمكن استغلالها لمصلحة إيران. فعلى الرغم من هوس قادة إيران بأميركا، فإنهم يُبدون سذاجة عجيبة في فهم السياسة الأميركية.
وتبدو تحقيقات الكونغرس وقد دفعت إيران إلى التشدّد والاستمرار في التصعيد الذي بدأته في شهر مايو (أيار) الماضي، بالهجوم على ناقلات النفط في الخليج وعلى أنبوب النفط الاستراتيجي في المملكة العربية السعودية، ثم بلغ قمته في الهجمات على منشآت أبقيق وخريص النفطية يوم 14 سبتمبر الماضي.
ويُظهر قادة إيران جهلاً بالسياسة الأميركية تجاه إيران، فعلى الرغم من بعض الاختلافات المحدودة بين الرؤساء الأميركيين، فإن الحزبين الرئيسين يتفقان في الحاجة إلى ردع إيران، كما يتفق معهما الرأي العام الأميركي. بل إن الرئيس باراك أوباما، الذي يُعتبر نسبياً أقل رؤساء أميركا عداوة لإيران، تبنى عقوبات قاسية تجاه إيران لدفعها للمفاوضات حول برنامجها النووي، وكان يقول دائماً إنه ليست لديه أوهام بشأن الحاجة إلى ردع إيران.
وخلافاً لذلك، يتخيل القادة الإيرانيون أن يدي ترمب ستكون مقيدة خلال تحقيقات الكونغرس، وأنه لن يتمكن من التصدي لتصرفاتها في المنطقة. ولكن التاريخ الحديث يُظهر أن رؤساء أميركا يستمرون في اتخاذ قرارات مهمة تجاه مختلف القضايا إلى آخر يوم من أيام ولايتهم، حتى في حالة خسارتهم للانتخابات أو تعرضهم لتحقيقات من الكونغرس تهدف إلى عزلهم. ولذلك فإن تحقيقات الكونغرس الحالية إن أخفقت في التوصل إلى قرار لإحالة ترمب إلى المحاكمة فإنها سترفع شعبيته، وربما ساعدته على الفوز بالانتخابات ومنحه 4 سنوات أخرى إلى يناير (كانون الثاني) 2025.
أما إن نجح مجلس النواب فصوتت أغلبيته بمحاكمة الرئيس، فإن مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون لن يوافق على عزله، فلم يسبق أن عُزل رئيس أميركي قط. وحينئذٍ، سيحاول ترمب تصوير الموضوع برمّته على أنه حملة ظالمة ضدّه من قبل الحزب الديمقراطي.
أما إذا أضعفت الضجة من حظوظ ترمب بالفوز بعهد ثانٍ، فإنه سيظل رئيساً إلى يناير 2021، وهو وقت كافٍ لاتخاذ قرارات حاسمة ضد إيران. وبالنظر إلى العداء المستحكم تجاه إيران من قبل جميع التوجهات السياسية الأميركية، فإن التصدّي لإيران بأي وسيلة كانت، ما عدا الحرب الشاملة، ستؤيده الغالبية العظمى من الأميركيين، بل سيحظى بتأييد معظم دول العالم، القلقة من تهديد إيران للملاحة الدولية ولإمدادات النفط. وقد كان واضحاً في مواقف الدول في الأمم المتحدة أنه لم يتبق لإيران سوى حفنة من الأصدقاء، وأنها قد تفقد هذه البقية الباقية إن هي استمرت في التصعيد.
ولهذه الأسباب، فإن إيران تُخطئ الحساب إن هي اختارت التصعيد خلال فترة تحقيقات الكونغرس.
وفي الميدان، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها يقومون بتعزيز التحالف الدولي لردع إيران ومن دون الدخول في حرب شاملة معها. فهناك على سبيل المثال «القوات البحرية المشتركة» التي يشارك فيها 30 دولة بقيادة مشتركة، و«تجمع الأمن البحري الدولي»، الذي تقوده الولايات المتحدة، وتم تأسيسه لحماية أمن الملاحة البحرية، بعد هجمات إيران على ناقلات النفط في شهر مايو الماضي؛ حيث يزداد باستمرار عدد أعضائه والدول المشاركة فيه.
وتقوم الولايات المتحدة حالياً بدعم وجودها العسكري في المنطقة، بإرسال مزيد من الجنود والأنظمة الدفاعية، وزيادة التنسيق والتمارين المشتركة مع حلفائها، كما أنشأت في 28 سبتمبر لأول مرة مركزاً رديفاً في ولاية جنوب كارولينا، للقيادة والسيطرة لعمليات القوات الجوية في المنطقة، لكي يضمن استمرار تلك العمليات في حال تعطل مركز القيادة في الخليج.
أما دول مجلس التعاون فإنها تقوم بإجراءاتها التي تقضي بها اتفاقية الدفاع المشترك، وقد رفعت من درجة تأهب قواتها، وسد الثغرات في دفاعاتها الجوية. وقد أكد رؤساء أركان دول المجلس في اجتماعهم الذي عُقد في الرياض يوم 3 أكتوبر (تشرين الأول)، وشارك فيه قائد القيادة العسكرية الموحدة لمجلس التعاون، وقوف هذه الدول صفاً واحداً لحماية أراضيها ضد أي عدون خارجي، وقد جاء الاجتماع تنفيذاً لقرارات قادة مجلس التعاون في القمة الطارئة التي عُقدت في مكة المكرمة في 30 مايو، وأكدت التزام دول المجلس باتفاقية الدفاع المشترك، ودعمها للإجراءات الأميركية التي تهدف إلى ردع إيران.
ومع هذه الاستعدادات، ومع الإدانة الدولية للهجمات على منشآت النفط، فلا يستبعد أن تسيئ إيران الحساب وتقوم مرة أخرى باستهداف المنشآت النفطية وناقلات البترول.