إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

العراق ينزف ويعزف

في قاعة أنيقة بالعاصمة الأردنية عمّان، قبل نحو أسبوع، جلس 15 عازفة وعازفاً يتلاعبون بالأوتار ومفاتيح الآلات الموسيقية وكأنهم يداعبون أرواح المستمعين. هؤلاء الفنانون هم من قدامى خريجي مدرسة الموسيقى والباليه في بغداد. درسوا فيها في ثمانينات القرن الماضي. تفرّقت بهم السبل وتوزعوا في أرض الله الواسعة. كبروا وتزوجوا وأنجبوا وشابت بعض الرؤوس. ثم، في لحظة مباركة، خطرت فكرة أن يجتمعوا مجدداً، كبيرهم والصغير، لتقديم حفل يليق بالعراق. تنادوا فيما بينهم من القارات البعيدة ونفذوا الفكرة «بمَنْ حضر». ركبوا الطائرات وتبادلوا الصور على الهواتف وهم في المطارات، يستعجلون الوصول. عادوا أطفالاً صاخبين لا يصدقون أنهم سيلتقون ويعزفون «تخليداً لذكرى روّاد مدرسة العود». هكذا كتبوا على دليل الحفل.
عمّان هي أقرب الحواضن لمن غادر الوطن الحزين ناشداً هدأة السلام. وهذه مناسبة نادرة دعا إليها المعهد الوطني للموسيقى في الأردن. لهذا احتشدت القاعة بجمهور لبّى الدعوة وكأنه يحجّ إلى حلم مُستعاد يقوده المايسترو محمد صديق. رأى الابن يعزف بمرافقة أمه وأبيه. وضيف الشرف عازف القانون فرات قدّوري. لم يكن حفلاً فنياً بقدر ما كان مظاهرة راقية. صفّقت الأكفّ لألحان فيتوريو مونتي. تمايلت الرؤوس على أنغام سلمان شكر وجميل بشير. رددت الحناجر أغنية عذبة كتبها عبد الكريم العلاف ولحنها صالح الكويتي. متى؟ قبل عقود من الزمن تبدو اليوم وكأنها قبل التاريخ. كلمات تخاطب الحبيب الذي يجافي من يهواه ويصل من يعاديه: «تبخل بقربك ليش؟ ما ترحم اليهواك، خاف الله ربّك».
هكذا هو العراق. قلب ينزف وأنامل تعزف، وسياسيون لا يخافون ربّهم. تمشي السياسة في حياتنا يداً بيد مع القصيدة واللوحة والأغنية. يتابع كبار السن أخبار الأبناء والأحفاد وهم يواجهون الرصاص وخراطيم المياه والغازات المُدمعة فيتذكرون أبياتاً للجواهري وللسياب وأغنيات لعزيز علي كأنها كُتبت لما يعيشونه في التو واللحظة. يتناقل العراقيون عبر المواقع قصيدة للرصافي تشبه النبوءة: «إما قتيلٌ شعبـُنا أو هاربٌ - متشردٌ أو أرملٌ أو ثاكلُ - هذا هو الأمل المُرجّى صفقة - أثرى بها الوغدُ العميلُ السافلُ - هذي شعارات الطوائف كلها - وهمٌ سرابٌ بل جديبٌ قاحلُ - والقادة الأفذاذ سربٌ خائبٌ - هم في الجهالة لو نظرتَ فطاحلُ - هذا هو الوطنُ الجميلُ مسالخٌ ومدافنٌ وخرائبٌ ومزابلُ - الأرض كل الأرض من دم شعبنا - اتقـّدَتْ مصابيح بها ومشاعلُ».
للعلم: كتب الشاعر هذه الكلمات قبل ثمانين عاماً. وللعلم، أيضاً، فإن وطن الخرائب والمزابل والأرامل والجياع هو دولة نفطية تبلغ عائداتها ستة مليارات دولار شهرياً. مليارات تصبّ في جيوب لصوص لا يشبعون. ينتفض شباب ولدوا في الزمن الفاسد. في الوقت الضائع. لم يعرفوا يوماً حلواً. لم يتذوقوا عزّة الوطن. ترى صور شهداء مثل الورد. ثم تسمع مزايدات برلماني ووزير وحزبي وفقيه. كل منهم يطالب بمحاكمة المسؤول. هل هناك من مسؤول غيركم؟ تدرك أن الأمل بعيد، سواء استقالت الحكومة أو لبدت في مكانها كالقدر الأعمى.