محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

بينما كانت أميركا نائمة!

العنوان السابق هو عنوان كتاب لروبرت أوبراين، مستشار الأمن القومي الأميركي، وهو كتاب نشره عام 2016 إبان الحملتين الانتخابيتين لدونالد ترمب عن الحزب الجمهوري، وهيلاري كلينتون عن الحزب الديمقراطي، في نهاية المدة القانونية التي يسمح فيها للرئيس بالبقاء في منصبه. أوبراين استخدم عنوان كتاب قديم لأحد أبطاله، كما ذكر، وهو ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا. كتاب تشرشل كان في نهاية ثلاثينات القرن الماضي، وعنوانه هو «عندما كانت بريطانيا نائمة!». مع تشرشل، يعترف أوبراين أن أبطاله التاريخيّين هم جورج واشنطن، وإبراهام لنكولن، ورونالد ريغان، ومارغريت ثاتشر.
التشابه بين كتاب أوبراين (وهو مجموعة مقالات) وكتاب تشرشل «الشعور بالمخاطر دون أن يشعر بها الآخرون»، يقول إن تشرشل كان واعياً للخطر الذي تتجمع غيومه الداكنة في سماء أوروبا، مع صعود الحركة النازية في ألمانيا. وقتها كان تشرشل خارج الحكومة وخارج البرلمان، فلم يكن أحد يصغي إليه، فقرر أن يتجه إلى الجمهور البريطاني عن طريق نشر آرائه السياسية في الصحف والتحذير من «القوى الظلامية»، لم تتبين نجاعة تحذيراته إلا بعد اندلاع العدوان النازي على الجيران في أوروبا.
واضح من المقارنة أن أوبراين في كتابه هذا، الذي كتبه بعد أن ناصر أكثر من مرشح جمهوري للرئاسة، وعمل ضمن حملاتهم الانتخابية، مثل ميت رومني وسكوت ووكر وتيد كروز، ولم يوفق أحد منهم في الوصول إلى الرئاسة، قرر بعدها أن يكتب أفكاره، «كما فعل تشرشل»، من أجل أن يستخدمها «أي جمهوري» يصل إلى البيت الأبيض.
من التعجل القول إن آراء مستشار الأمن القومي الأميركي هي التي تُتبع دائماً، أو في الغالب، فالنظام السياسي الأميركي أكثر تعقيداً، إلا أن المستشار عادة يكون قريباً من الرئيس، وقد يكون له تأثير عليه، وهو تاريخياً يقوم بتقديم المشورة في العلاقات الدولية الحاسمة. الاستدراك واجب هنا، فدونالد ترمب ليس كأي رئيس جمهوري تقليدي، فهو قادم من خارج المؤسسة!
حياة أوبراين السياسية لافتة، فهو محافظ منذ بدأ نشاطه السياسي. وأول أعماله بعد تخرجه أن اشترك في تأليف كتاب نشره ريتشارد نيكسون بعد الإطاحة به من الرئاسة، وكان عنوان ذلك الكتاب «الحرب الحقيقية». لم يكن نيكسون مقبولاً وقتها بعد «خروجه الفضائحي»، لكن أوبراين ذهب للعمل معه، باعتباره أحد أعمدة الحزب الجمهوري التاريخيين. رونالد ريغان لم يكن قريباً من نيكسون، ولكن في إحدى حملاته الانتخابية شوهد يحمل نسخة من كتاب «الحرب الحقيقية»، بالنسبة لأوبراين ذلك مؤشر على سير ريغان على نصائح نيكسون، التي راكمها من خبرة طويلة في السياسة الأميركية.
مقدمة كتاب روبرت أوبراين كتبها محلل سياسي ورئيس مركز «ريتشارد نيكسون» وهو هيوج هيووت، لا يُخفى هيووت إعجابه بأوبراين، ويرى فيه الشاب الواعد في الشؤون الدولية الأميركية، بل يصفه بالعبقري ويقارنه بكيسنجر، فهو خبير في الشؤون العسكرية، خاصة في مجال القوات البحرية، وله دراية واسعة في الشؤون الدولية، كما عمل في فترة نائباً لجون بولتون، عندما كان ممثلاً لإدارة بوش الابن في الأمم المتحدة.
معظم كتاب روبرت أوبراين هو حملة لا هوادة فيها على سياسات باراك أوباما الذي يصفها بالخسارة الصافية للولايات المتحدة، كما أنها في رأيه أسوأ من سياسة جيمي كارتر، التي أصبحت مثالاً للفشل الذريع. يقول: «لا أي رئيس ولا جيمي كارتر كان كارثة على الأمن القومي الأميركي كما هو أوباما» الذي جمع السذج والهواة من متطوعي حملته كي يشيروا عليه في الشؤون الدولية، التي ليست لهم خبرة فيها.
يرى أوبراين أن «كل الرؤساء الجمهوريين الذين قدموا إلى البيت الأبيض كان عملهم الأساسي هو تنظيف الحطام، جراء ما فعله سابقوهم من الديمقراطيين في سياسات الأمن القومي، هكذا فعل نيكسون 1969 وريغان 1980 وجورج بوش الابن 2001». يرى أوبراين أن باراك أوباما عند وصوله إلى البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) 2009 عُلق عليه كثير من الآمال، حتى من قبل خصومه السياسيين، وخلال عام حصل على جائزة نوبل للسلام، التي بُنيت على «وعوده» وليس «أعماله»!
يتابع أوبراين الأعمال السياسية لأوباما، خطوة خطوة، ويرى أن فكرته «انتهاء الاستثناء الأميركي» هي خطأ فادح في حق تاريخ شعب الولايات المتحدة. كما يشير أوبراين بكثير من النقد إلى خطاب أوباما في القاهرة «الاعتذاري»، حيث قال أوباما إن «الخوف والغضب جعلنا نقوم بأعمال ضد تقاليدنا»!
بعد تلك الإشارات، التي يرى أوبراين أنها معبرة عن تراجع سياسي، يدخل في الموضوع الأعمق بالنسبة إليه، وهو «القوة العسكرية الأميركية»، يرى أن تخفيضات أوباما للميزانيات العسكرية أضرّت كثيراً بالقدرة والجاهزية الأميركية، فأصبح جيش الولايات المتحدة أصغر حجماً، والقوات البحرية أقل جاهزية، وتدهورت الصناعة العسكرية، إلى درجة كما قال إنه «لو كان عماد قواتنا الجوية شخصاً، لاستحق المعونة الاجتماعية»! فهو يرى أن تبرير باراك أوباما لتقليص الإنفاق العسكري من أجل موازنة الميزانية الاتحادية تضليل، فبدلاً من إصلاح الميزانية، تضخم الدين العام في فترة أوباما بشكل غير مسبوق. ويرى أيضاً أن تقليل الإنفاق على القطاع العسكري الأميركي هو «سذاجة من إدارة أوباما»، على أساس أن الآخرين سوف يحذون حذوه، لكنهم عززوا من ميزانيات قطاعاتهم العسكرية.
ويرى أوبراين أن التهديد للأمن الأميركي يأتي من 3 محاور؛ الصين وروسيا وإيران، هذه الثلاثية تشكل التهديد للمصالح الأميركية، (القوى الظلامية الجديدة)، فالتوسع الصيني ضخم، ويضرب مثالاً على ذلك أنه يعيش اليوم 3 ملايين صيني في القارة الأفريقية، يعملون في خدمة حكومات، ليست في الغالب ديمقراطية، ويبنون لها «أفيالاً بيضاء» بتمويل صيني، قد لا تستطيع دفع فوائده، إنه استعمار صيني لا غير، وتتوسع في بحر الصين الجنوبي. وأيضاً يمتد النفوذ الروسي من أوكرانيا إلى سوريا، وتتوسع إيران بنفوذها في مناطق واسعة في الشرق الأوسط، حاملة معهاً نوعاً من أنواع الفاشية الدينية والحرب على المصالح الأميركية، التي تنتج من ضمن ما تنتج التشدد الديني.
القيادة من الخلف وإعطاء الملالي في إيران 100 مليار دولار كما فعل أوباما استرضاء، تشكل مظاهر التراجع الأميركي. البديل أن القائد يجب أن يقود، ولا ينقاد للرأي العام، وعلينا كما يرى أوبراين «إعادة بناء القوة الأميركية، والحفاظ على السلام من خلال القوة، الضعف يجلب العدوان». ما تقدم هو ملخص قد لا يكون شاملاً لأفكار المستشار الجديد، في كتاب يستحق القراءة، وقد لا تتحول تلك الأفكار إلى أعمال، إلا أن قراءتها قد تدلنا على ملامح تفكير مستشار الأمن القومي الجديد.
آخر الكلام: يقول أوبراين: «الاعتداء الذي لا يقف أمامه أحد يؤدي إلى كارثة».