جميل مطر
كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي.
TT

بحثاً عن نظرية تبرر حصار الغرب للصين

زار السيد ستولتنبرغ الأمين العام لحلف الأطلسي أستراليا قبل أسابيع قليلة. هناك صرح قائلاً بما معناه أن «الصين صارت مؤخراً مصدر قلق شديد لأمانة الحلف، ومحل انشغال واهتمام، ليس بسبب أن الحلف يريد الآن أن يصل إلى الباسيفيكي، ولكن لأن الصين وصلت إلى أوروبا».
أعرف، كما - لا شك - يعرف كل مهتم برحلتَي صعود الصين وانحدار حلف الأطلسي، أن شواطئ الباسيفيكي لم تكن تحتل مكاناً مهماً في خيال قادة الحلف، عندما راودته في التسعينات، وألحت رغبة - ولعلها تجاوزت حدود الرغبة إلى الشهوة - ترتيب علاقات وروابط مع شواطئ ودول في الخليج، ودول في جنوب المتوسط وأفريقيا. لم تكن الصين في ذلك الحين على خريطة اهتمام أو قائمة رغبات حلف الأطلسي. بمعنى آخر لم تكن مصدر قلق أو مبعث خوف. كان الحلف لا يزال في مرحلة جني ثمار السقوط السوفياتي والصعود الإسرائيلي، وكان سعيه دؤوباً لتوسيع حدود الحلف الشرقية في أوروبا، تأكيداً وترجمة لثقة خبراء الحلف في ثقافة الكرملين الأمنية، ثقة دفعتهم - وأظن أنها ما زالت تدفعهم - للاستمرار في إقامة القلاع، واستمرار التسلح لمواجهة خطر قادم من روسيا لا شك فيه، أياً كان شكل ومهما كانت آيديولوجية النظام الحاكم في موسكو.
الموقف من روسيا لم يتغير. تغيرت تفاصيل في الصورة، بعضها مهم، مثل الحرب الأهلية الدائرة بين أعضاء الحلف الأطلسي؛ وخصوصاً بوادرها في عهد الرئيس باراك أوباما، ثم معاركها شديدة الصخب منذ مجيء الرئيس دونالد ترمب إلى سدة الحكم في البيت الأبيض. من المهم أيضاً استخدام أسلحة تتناسب وعصر هذه الحرب الباردة الجديدة، وأعني بالتحديد التزود بتكنولوجيات متطورة في حرب التخريب التي تشنها المؤسسات الاستخباراتية، على جانبي الصراع الدائر بين موسكو والدول القائدة في الحلف.
في الوقت نفسه، لا نستطيع أن نغفل حقيقة اعتماد أوروبا المتزايد على غاز روسيا، وانفتاح مصانعها على الأسواق والمواد الخام الروسية.
الجديد بالتأكيد هو الموقف من الصين. هنا نبدأ من نقطة حرجة لكلا الطرفين، فالغرب لم يتخلَّ تماماً عن ميوله العنصرية؛ وخصوصاً إيمان بعض قياداته الفكرية والسياسية بتفوق العنصر الأبيض. هذا الميل مارسه الغرب بامتياز ومن دون انقطاع على طول المرحلة الاستعمارية الأوروبية والأميركية في الصين، ولا يزال، بدليل أن القادة الغربيين لا يتصورون أن لقادة الجنس الأصفر الحق في أن يتوسعوا على حساب الغرب؛ بل ويغزوا معاقل الرجل الأبيض ومساقط رؤوسه في أوروبا. هذا الميل تستخدمه أجهزة التعبئة الآيديولوجية في الحزب الشيوعي الصيني كلما احتاج الأمر. وهي الآن لا تكاد تحتاج لتغذيه بنفسها، فالميل عاد يغذي نفسه في معظم مجتمعات الدول الأعضاء في حلف الأطلسي، ابتداء من المجر وبلغاريا وانتهاء بألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة؛ حيث تكاد تسود وتتحكم بدائل حكم تعتنق التميز العنصري تحت أسماء مختلفة.
هناك أسباب أخرى تضاعف من قلق قادة حلف الأطلسي تجاه الصين، بعضها مفهوم وأغلبه تتحكم فيه وتضخمه وساوس التاريخ الحديث، وعمق التاريخ الأقدم. قيل بين ما قيل في تحليل علاقات الغرب بالصين، إنه لو لم تنهض الصين بهذه الكفاءة منقطعة النظير، ولو لم تصعد بهذه السرعة الغريبة، فلربما أمكن للغرب أن يتأقلم مع مراحل النهوض، ليكون على أهبة الاستعداد لاستقبال قوة دولية جديدة. الصين فاجأت الغرب، وخصوصاً حلف الأطلسي بكل معنى المفاجأة، وما الهرولة الجارية أمامنا إلا أحد تداعيات هذه المفاجأة. وما القلق المتصاعد إلا علامة أخرى من علامات كثيرة تكشف نقص الاستعداد والتقصير في التأهب.
الأسباب الدافعة لقلق الحلف كثيرة، منها مثلاً:
أولاً: الحلف مفاجأ بواقع أن نصيباً واسعاً من البنية التحتية الأوروبية صار الآن خاضعاً لهيمنة تكنولوجيا صينية، أبدعتها وطورتها وتنفذها في أوروبا شركة «هواوي» الصينية.
ثانياً: الحلف - ومعظم الدول فرادى - لا يزال غير مصدق للسرعة التي نفذت بها حكومة الصين وشركاتها مئات المشروعات التي تحمل عنوان «مبادرة الحزام والطريق» التي أطلقها الرئيس شي في عام 2013، أي قبل ستة أعوام، ولا يزال التوسع مستمراً.
ثالثاً: خبراء جدد في الحلف منبهرون بمدى ما حققه خبراء الصين في فهم ضرورات تطوير المناطق القطبية، رغم أن الصين هي القوة الدولية الأبعد جغرافياً عن القطب الشمالي، وربما الأبعد ثقافياً وتاريخياً.
رابعاً: لم يكن إلا سراً معلناً، الأسلوب الآسيوي في سرقة أو حيازة ممتلكات فكرية دون استئذان أو عرض مقايضة. إنما السر المخفي فكان حين اكتشف خبراء الغرب حجم ما تحصل عليه الصينيون من ثمار التفكير والإبداع في الغرب خلال سنوات قليلة.
خامساً: كل المهتمين تابعوا بالإعجاب أو بالرهبة، الزحف الصيني الواسع للاستيلاء بالمشاركة أو الشراء أو الإيجار، على عدد متزايد من الموانئ البحرية المطلة على البحر المتوسط، وبعضها من المرافئ التي يستخدمها حلف الأطلسي.
سادساً: اختارت الصين أن تجري مناوراتها العسكرية مع روسيا في مناطق بالغة الحساسية. تجريها في الباسيفيكي؛ حيث الخطوط الحمر كثيرة، وتجريها أيضاً مع روسيا في الأقاليم القطبية وفي بحر البلطيق.
يفكرون الآن في إقناع الصين بالموافقة على إنشاء مجلس يضم الصين إلى جانب الحلف أو قيادة تمثله، مثل هذا المجلس ابتدعه قادة الحلف فور سقوط الشيوعية، وفي ظروف خوف كبير من وقوع أسلحة الدمار الأعظم في أيدي شيوعيين أو فوضويين.
يقترحون أن يكون لمجلس مماثل مع الصين وظائف، منها على سبيل المثال:
أولاً: التعرف بشكل مباشر على نيات الصين، وتفادي الوقوع في أخطاء جسيمة من سوء الفهم والتقدير.
ثانياً: وضع القواعد التي تضمن أسبقية التعاون على المواجهة.
ثالثاً: تقديم خدمة للدبلوماسية الصينية، وهي التعامل مع تسع وعشرين دولة، أعضاء الحلف، من خلال جهة واحدة وليس دولة دولة. وفي ظني أن الصين ليست في حاجة لهذه المكرمة، باعتبار أنها تعتمد دبلوماسية تفضل التعامل الثنائي مع الدول. وإن كنت لا أستبعد أن مسؤولياتها الدولية في المستقبل سوف تفرض عليها التعامل مع مؤسسات ومنظمات وأحلاف، وليس فقط مع دول منفردة.
رابعاً: مناقشة الاستثمارات الصينية المعروضة على دول الحلف في اجتماعات مفتوحة، منعاً لوقوع هذه الدول فيما تسمى مصيدة الاستثمارات الصينية.
لم يتجاوز أمين عام حلف الأطلسي الحقيقة، حين أعلن أن الصين وصلت إلى أوروبا قبل أن يصل الحلف إلى الباسيفيكي. إعلانه هذا يعني أيضاً أننا على وشك أن نشهد نقلة مهمة في دبلوماسية الصين، من التركيز على التوسع في أفريقيا وأميركا اللاتينية إلى التمركز في مواقع، وربما في أحلاف، آسيوية للدفاع عن أمن الصين وحلفائها، ضد حروب يستعد لشنها حلف الرجل الأبيض على شعوب آسيا الملونة، كما فعل قبل أربعة قرون أو ما يزيد.
أعتقد أن هذا النوع من التفكير الاستراتيجي هو الذي سوف يقرر نياتها تجاه الحلف الجديد، الذي تسرع واشنطن في تنظيمه وإخراجه، الحلف الإندوباسيفيكي.