د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

تحديث متوتر

إذا كان من الصعب الحديث عن حداثة في الفضاء العربي الإسلاميّ، فإنّه من الموضوعيّة عدم إنكار عملية بذل جهد من أجل التحديث في مجتمعاتنا، ما فتئت تقوم به نخب متتاليّة، وهو جهد انطلق منذ قرابة النّصف قرن واستند إلى إرث قبله وتلاقح أيضاً مع تجارب الآخر في الانفتاح القيمي والتبادليّة الحواريّة الثّقافيّة.
طبعاً هنا نحن نميز بين الحداثة والتحديث؛ فالحداثة منظومة قيمية تولي للذات مركزية مطلقة وللعقل علوية استثنائية والحرية الأفق الأوحد. فهي من شقين؛ الأول مادي ويتمثل في مظاهر التحديث المادية، والثاني معنوي ويشمل الرموز والقيم والمعاني. في حين أن التحديث هو عملية إدخال مظاهر الحداثة في حياة مجتمع ما وجعلها بديلاً لهياكله التقليدية. لا تفوتنا الإشارة إلى أن الفصل بين الحداثة والتحديث مسألة اعتباطية، حيث إن مظاهر التحديث الماديّة هي حاملة للقيم وللثّقافة التي تحتاج إلى الوقت وإلى المعارك القيمية كي تتغلغل وتتجذر. ودليلنا في هذا أن الثورة الصناعية في إنجلترا كانت سابقة وممهدة للثورة الفرنسية.
مشكلتنا في الوقت الراهن أن التحديث في بلداننا قد عرف تعثرات حقيقية أطاحت الخطوات التحديثية التي قطعت والتي كانت تحتاج بدورها إلى التراكم والجهد كي تتأكد أكثر بشكل يسمح بمحاورة قيم سليلة الحداثة، بل إن التعثرات الحاصلة قد أنتجت لخبطة قيمية بدلاً عن التلاقح القيمي، إضافة إلى ما نراه من انفصامية عميقة بين مظاهر تدل على التحديث ومظاهر تدل على الدوغمائية والانغلاق ورفض المعاصرة.
إذن يمكن وصف واقع التحديث في بلداننا بأنه متعثر ويواجه إخفاقات خطيرة ويعرف توترات عدة مانعة لحماية المنجز التحديثي ومانعة للتراكم اللازم.
السؤال: لماذا تعثرات مسارات التحديث في مجتمعاتنا رغم البدايات المشجعة التي عرفتها حقول التعليم والصحة والعقلنة؟
يبدو لنا أنه يمكن التوقف عند سببين اثنين كبيرين؛ أولهما حرب الخليج وخطأ غزو الكويت وما انجر عن ذلك من حرب طويلة قاسية على العراق والخليج والعالم العربي مشرقاً ومغرباً.
لقد دفع العالم العربي والإسلامي تكلفة حرب الخليج مالياً واقتصاديا وسياسيا وتنموياً. الجميع دفع دون استثناء لأن الضرر مس الجميع، وتداعيات الغزو من غزو الكويت إلى غزو العراق شملت كل بلداننا. ونعتقد أن كل قراءة للوضع العربي اليوم خارج التأريخ للأزمة من تاريخ حرب الخليج الأولى هي قراءة خارج الترابط التاريخي.
ويتمثل دور حرب الخليج في استنزاف العالم العربي ماديا وتراجع إمكانياته المادية واضطراره إلى تلبية شروط هي من النتاج السلبي لحرب الخليج.
ومع بداية الألفية الجديدة وتحديداً بعد أن بدأت الأزمات الاقتصادية تظهر علاماتها ومؤشراتها، انتهز الغرب الفرصة لفرض مشاريع الإصلاح والديمقراطية في العالم العربي تطبيقاً لأفكار فرانسيس فوكوياما صاحب فلسفة النهايات: نهاية التاريخ والإنسان الأخير، وهو تقريباً أول من دعا إلى ترويج الديمقراطية بالقوة، ومنطلقه الفكري الأساسي أن نهاية الحرب الباردة هي نهاية للأنظمة الشمولية غير الليبرالية والديمقراطية كافة. ويمكن وضع ما سمي بالثورات في بداية العقد الثاني من الألفية الجديدة في هذا السياق وهو واقع لم تتحدد ملامحه بعد ويتميز باحتقان متواصل لم تنجح الثورات في معالجته، الأمر الذي جعل قراءة النتائج والمسارات محفوفة بالشك والتشكيك.
السبب الثاني لمسارات التحديث المتوترة المتعثرة التي تعرفها مجتمعاتنا اليوم هو تضافر الأزمات الاقتصادية وارتباك الأنظمة العربية السياسية مع العودة القوية لحركات الإسلام السياسي التي استثمرت التصدعات النفسية الثقافية التي عرفتها العلاقة بين العرب المسلمين والغرب بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والدخول في الحرب ضد الإرهاب بكل الالتباسات التي تعنيها هذه الحرب، والتوقيت الذي عاد فيه الإسلام السياسي للنشاط وللدعوة وتوظيف وسائل التواصل الاجتماعي لانتداب الشباب العربي والمسلم، إضافة إلى تحول وجهة النقاشات والنضال من مجال التحديث والانفتاح إلى مجال الدفاع عن الهوية والانكفاء داخل الهوية الدينية.
كما أن الأسباب مجتمعة تشابكت على نحو يتناسل كما الفطريات مما عمق التأزم.
وإذا ما وضعنا في الاعتبار أن التحديث لا مناص منه اليوم وأنه ليس أمراً موكولاً للاختيار بقدر ما أصبح ضرورة للتعايش مع العصر ومع العالم، فإن المطلوب هو التفكير في كيفية معالجة الموانع التي تعرقل مسار التحديث والنضال بشكل واع ومدروس لتذليل التوتر وذلك بالاشتغال اقتصاديا وثقافياً في الوقت نفسه.
هناك عطبان؛ اقتصادي وثقافي ولا مجال لمعالجة توترات المنجز التحديثي والمضي قدماً في مسار الحداثة إلا بحل المشاكل الكبرى التي اختصرناها في تداعيات حرب الخليج الاقتصادية وتوظيف جراحها الثقافية من طرف الإسلام السياسي.