عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

جرعة من دوائهم نفسه

«اسقهم جرعة من دوائهم»، تذكرت المثل الإنجليزي عندما وظفت الحكومة البريطانية أداة دستورية بإطلاق دورة برلمانية جديدة جردت الموالين لبروكسل من أهم أسلحتهم، وهي الأدوات الدستورية نفسها التي استخدموها طوال الدورة الحالية لعرقلة خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي المقرر في نهاية الشهر المقبل.
وتوضيحاً للقارئ غير البريطاني، نشرح بضعة مصطلحات برلمانية، تعمدت الشبكات التلفزيونية البريطانية، وكلها بلا استثناء، و«سي إن إن»، ضد «بريكست»، خلطها في تعبير «تعليق البرلمان». عبارة استفزازية مقصودة لإيهام الناس بأن إجراء الحكومة غير ديمقراطي.
ورددت شبكات وصحف عربية الخطأ نفسه، خصوصاً أن محرريها ينظرون إلى بريطانيا من نافذة «الغارديان» اليسارية منبر البقائيين بقولها «رئيس الوزراء بوريس جونسون علق البرلمان لخمسة أسابيع...». عدم دقة ومغالطة في الوقائع؛ فليس بقدرة جهة غير الملكة تعليق البرلمان، إما بناءً على توصية من رئيس الوزراء، نيابة عن البرلمان، أو من المجلس الاستشاري الملكي (The Privy Council)، بما يتماشى والسوابق الدستورية.
البرلمان لم يعلق. فلا يزال النواب نواباً، تصرف مرتباتهم ويتلقون المخصصات والمصاريف الإضافية في فترة التأجيل الممتدة ما بين الثاني عشر من الشهر الحالي، وموعد الدورة المقبلة في الرابع عشر من الشهر المقبل.
فمصطلح تعليق البرلمان (suspension) يعني تعطيل البرلمان دستورياً عن العمل كإصدار التشريعات؛ كأن يحل مثلاً، أو يدخل فترة تعرف بالخمود (البردة) (purdah) ما بين انتخابين، ولا يصبح الأعضاء نواباً، انتظاراً لانتخابات جديدة، وهو ما لم يحدث.
وهذا يقودنا إلى تعبير «Prorogation»، أي «تأجيل عمل مجلس العموم لدورة جديدة، لكنه غير «ADJURNMENT» كتأجيل الجلسة لموعد آخر في قضية مستمرة أمام المحكمة، وهو تعبير آخر عندما يعود المجلس للانعقاد بعد عطلة نهاية الأسبوع مثلاً.
ولا جهة غير الملكة قادرة على إصدار قرار «البروروغيشين»، كما حدث الأربعاء، بناءً على طلب رئيس الحكومة من القصر استعداداً لـ«خطاب الملكة»، وهو تعبير برلماني آخر. ومهما تكررت المناسبات، رسمية أو خاصة، التي تلقي فيها الملكة كلمات، فمصطلح «خطاب الملكة» له معنى واحد فقط؛ افتتاحها لدورة برلمانية جديدة. «خطاب الملكة» هو برنامج الحكومة الجديد، ويطرح للمناقشة والتصويت، ورفض المجلس له يطرح التصويت بسحب الثقة من الحكومة. فترة الفصل بين الدورتين هي «البروروغيشين». وفق السوابق البرلمانية والدستورية توجهت الحكومة بالطلب للملكة، أثناء قضاء إجازتها الصيفية في قلعة بالمورال في أسكوتلندا، ومثلها الرئيس التنفيذي للمجلس الاستشاري، جيكوب ريس - موغ (ابن رئيس تحرير «التايمز» السابق ويليام ريس موغ)، وهو زعيم الأغلبية في البرلمان، ومارك سبنسر كبير «حملة السياط» (مدير الانضباط الحزبي في مجلس العموم) بتوجيه من رئيس الوزراء.
الملكة تتبع التقاليد، وتعرف الإجراءات الدستورية، ولذا وافقت وأصدرت أمر تأجيل البرلمان، فما سبب الضجة من إجراء دستوري يتكرر مرة كل عامين؟
السبب توقيت الخطوة بتعديلها جدول أعمال البرلمان، منقصة الوقت المتاح للموالين لبروكسل للتدبير مع رئيس المجلس جون بيركو (وهو لا يخفي موالاته للبقاء في الاتحاد الأوروبي وخرق اللوائح البرلمانية قبل أشهر لصالح المعارضين لـ«بريكست») لتعطل خطة الحكومة بإقناع بروكسل بإعادة التفاوض عندما ترى البلاد مستعدة للخروج بلا صفقة.
جاءت مناورة رئيس الحكومة بوريس جونسون بارعة أثناء «recess» عطلة البرلمان لمدة محددة كإجازة الصيف مثلاً، التي تنتهي هذا العام بعودة مجلس العموم للانعقاد بعد غد الثلاثاء.
الفارق بين «ريسيس» و«بروروغيشين»، أنه في الأولى يستطيع رئيس المجلس بالتشاور مع زعيم الأغلبية استدعاء المجلس للانعقاد، بينما يحرم من هذه الفرصة في الثانية انتظاراً لافتتاح الملكة الدورة البرلمانية الجديدة.
كان يفترض رفع البرلمان جلساته يوم 12 سبتمبر (أيلول) لعطلة مؤتمرات الأحزاب، ويعود للانعقاد في الثامن من الشهر المقبل. «البروروغيشين» لحين «خطاب الملكة» مد عطلة المؤتمرات أسبوعاً ليوم 14 أكتوبر (تشرين الأول)، ليصبح خمسة أسابيع، ليكون أطول «بروروغيشين» منذ تأجيل عمل البرلمان في مايو (أيار) 1919 لأكثر من 42 أسبوعاً.
مناورة جونسون أعطت الموالين لأوروبا جرعة من دوائهم، رافضين ابتلاعها. فبينما خرقوا اللوائح البرلمانية بمساعدة رئيس المجلس، كان طلب الحكومة من الملكة صحيحاً دستورياً، وفق قانون «البروروغيشين» لعام 1867، والمعدل بقانون التمثيل الشعبي لعام 1918 الذي يمنح الحكومة حق مهلة تمديد العطلة (الريسيس) بمدة أقصاها 20 يوماً لوصلها بعطلة التأجيل.
جونسون يريد إيصال رسالة لبروكسل بألا تراهن على قدرة الموالين لها في وستمنستر على تعطيل «بريكست».
مناهضو «بريكست» لجأوا للمحاكم. قدموا طلباً بتدخل قضائي طارئ لتعطيل خطة جونسون، قدموه في محكمة أسكوتلندا، واختيارها بسبب وجود الملكة في أسكوتلندا، والقضاء المستقل عن السلطتين التنفيذية والتشريعية يتبع التاج، فالمحكمة العليا توجد في أسكوتلندا صيفاً.
وهذا يذكرني بمصر ما بين ثلاثينات القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، عندما تنتقل أجهزة الدولة والملك والحاشية، حتى السفارات والحكومة، إلى الإسكندرية، لتصبح العاصمة الرسمية أثناء الصيف، بجانب أنها كانت العاصمة المالية والتجارية الأولى، وهو التقليد الذي انتهى بتنازل الملك فاروق عن العرش في يوليو 1952.
قاضي محكمة أسكوتلندا لم يرَ الأمر طارئاً، فأجل النظر في اختصاص المحكمة بالأمر إلى الأسبوع المقبل. القضية الثانية رفعتها امرأة مشاكسة سياسياً (لا يسألها مراسلو التلفزيون عن مصدر تمويلها)، وانضم إليها رئيس الوزراء الأسبق جون ميجر (نفسه أجل «بروروغيشين» للبرلمان في 1997 للتهرب من مواجهة أسئلة حول تهم فساد بعض نوابه)، وتنظرها المحكمة العليا الخميس المقبل. القضية ليست لها سابقة، فصاحبتها تريد الحكم «بسوء نية» رئيس الوزراء، وتتهمه بأن نيته الحقيقية من التقدم للملكة بإنهاء الدورة البرلمانية لم تكن لتقديم برنامج حكومة جديد، وإنما لمنع النواب من استجوابه عن مشروعه للخروج في 31 أكتوبر.
السوابق القضائية لسوء النية كانت القضايا الجنائية فقط، كما أنها أمر يصعب إثباته بشكل قاطع. القضية هي الأولى من نوعها، ولذا، بصرف النظر عن حكم المحكمة فستكون سابقة، كخطوة دفعت بالجهاز السياسي نحو القضاء، وتضاف إلى مجموعة السوابق والقضايا والقرارات الملكية والممارسات البرلمانية التي يتكون منها أقدم وربما أروع دساتير العالم، وسر جاذبيته أنه غير مكتوب، يتعدل ويتطور باستمرار منذ صياغة «الماغنا كارتا» في يونيو (حزيران) 1215.