إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

هل باتت المنطقة أمام مقاربات جديدة من واشنطن وموسكو؟

التطورات الأخيرة المتلاحقة في العراق وسوريا ولبنان توحي بدخول الحسابات الإقليمية والقراءات الدولية لها مرحلة جديدة. ورغم اختلاف التفاصيل، فإن ثمة قواسم مشتركة لافتة بين الدول الثلاث تستحق التوقّف عندها، في مقدّمها:
1 - عجز القوى الحاكمة عن التحكّم كلياً في مسار الأحداث داخل دولها.
2 - تعذُّر بناء جبهة داخلية واحدة متماسكة قادرة على التوافق على «هوية سياسية» للحكم، أو بلوَرة بدائل له تحظى بتوافق عريض يتجاوز الاعتراضات الإقليمية وتتوافق عليها القوى الدولية الكبرى.
3 - غموض التوجّهات - المعلنة على الأقل - عند القوى الإقليمية غير العربية التي ترى نفسها معنيّة بما يحصل داخل «جاراتها» العربيات، أو تعتبر أن لها «حقاً طبيعياً» للتدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول «الجارة».
4 - ظهور بوادر نشاط أكبر على مستوى مُقاربات القوى الكبرى، سواء بصورة مباشرة أو بالواسطة، للتأثير فيما هو حاصل داخل هذه الدول.
في العراق، قُصفت خلال الأسابيع القليلة الفائتة، وسط صمت رسمي، مقرّات لفصائل تابعة لـ«الحرس الثوري» الإيراني في محافظتي صلاح الدين وديالى. وأفادت تقارير صحافية موثوقة بأن القصف نفّذته إسرائيل، وأن عناصر في «الحرس الثوري» قُتلت في أحد المقرّات. وجاء هذا القصف بعد فترة قصيرة من إدراج وزارة الخزانة الأميركية أربع شخصيات عراقية على لائحة العقوبات محسوبة على طهران. ومعلوم أن الخلافات داخل المكوّنات السياسية لحكومة بغداد حالت دون إكمالها، بسبب تعذّر التوافق على مَلء حقيبة وزارة التربية، بعد خلافات طويلة أخّرت اختيار وزيري الداخلية والدفاع.
وفي لبنان، ما كان الوضع أفضل. فعلى امتداد شهر شلّت حادثة قبرشمون وتداعياتها واصطفافاتها السياسية، عمل الحكومة وعطلت اجتماعاتها وهدّدت بكارثة أمنية في منطقة جنوب جبل لبنان التي تعد إحدى أكثر مناطق لبنان حساسية طائفية. وفي مزيج من استنهاض الخطاب الاستفزازي الإلغائي، والحزازات الثأرية، والضغوط العلنية والمستترة لاستغلال الحادثة في تصفية حسابات محلية وإقليمية تمهد لوضع اليد على لبنان... بدأ البلد انزلاقه نحو المجهول. لقد كان الأمل الوحيد بالإنقاذ قد تبخّر عندما أعلن رئيس مجلس النواب نبيه برّي تجميده مبادرته التصالحية رداً على تخلّي رئيس الجمهورية ميشال عون عن موقعه كـ«حَكَم» كي يجدد نزاعه القديم مع الزعيم الاشتراكي الدرزي وليد جنبلاط. وما يُذكر أنه بالتوازي مع موقف عون، صعّد وزير الخارجية جبران باسيل (صهر عون ورئيس «تياره») مواقفه رغم تلقيه «نصائح» أميركية بالتزام التهدئة.
هذا «السيناريو» الخطير كان يتكشّف بالتوازي مع تفاقم الأزمة الاقتصادية. وفجأة، جاء «الترياق» من السفارة الأميركية عبر بيان مفاجئ أعرب بكلام تحذيري عن دعم واشنطن «المراجعة القضائية العادلة والشفافة دون أي تدخّل سياسي». وشدّد على أن «أي محاولة لاستغلال الحادث المأسوي الذي وقع في قبرشمون في 30 يونيو (حزيران) الماضي بهدف تعزيز أهداف سياسية، يجب أن يتم رفضها». وأضاف: «لقد عبَّرت الولايات المتحدة، بعبارات واضحة، للسلطات اللبنانية، عن توقّعها أن تتعامل مع هذا الأمر بطريقة تحقق العدالة دون تأجيج نعرات طائفية ومناطقية بخلفيات سياسية».
كان لهذا البيان فعل السحر. فعقد اجتماع في القصر الرئاسي حضره رؤساء الجمهورية ومجلس النواب والحكومة، ومعهم الزعيم وليد جنبلاط، والنائب طلال أرسلان (المحسوب، مثل باسيل، على «حزب الله»)، وانتهى بالتفاهم على إنهاء تعطيل اجتماعات مجلس الوزراء، والامتناع عن التطرق للحادثة، في اجتماع المجلس الذي تقرر في اليوم التالي.
هذا التدخل الأميركي المباشر كان الأول في لبنان منذ 2005. وهو يعبّر عن قراءة واشنطن الجدّية لسير «حزب الله» - ومن خلفه إيران - في مخطط وضع اليد على البلد، وإحداث تغيير سياسي جذري ونهائي فيه.
أخيراً، ماذا عن سوريا؟
في سوريا، كثر الكلام في الآونة الأخيرة عن صراع يخفت حيناً ويتأجج حيناً آخر بين موسكو وطهران. وكانت تقارير عدة قد تحدثت قبل سنوات عن أن «التحالف» الروسي - الإيراني تكتيكي، وليس استراتيجياً، وأن ثمة اختلافاً في الرؤية بين الجانبين إزاء عدة أمور تفصيلية وجغرافية، ثم ظهر التباين بين أولويات «الحليفين» على الأرض في عدة أماكن، إذ بينما تتعامل موسكو مع سوريا من منطلقات سياسية - عسكرية مرتبطة بتوازن القوى الاستراتيجي مع واشنطن في شرق المتوسط... فإن جزءاً بارزاً من اهتمامات طهران كان إحداث تغيير ديموغرافي، خصوصاً، في «ممرّ» طهران - بغداد - دمشق - بيروت. وحقاً، تُرجم هذا عبر تهجير سكان منطقة وادي بردى، وهو اليوم يحكم تصرّف الإيرانيين في منطقة البوكمال - الميادين الحدودية مع العراق.
قد يقول قائل إن سوريا تعيش راهناً ظروف «سايكس - بيكو» جديدة تتقاطع فيها المصالح الإقليمية (إيرانياً وتركياً وإسرائيلياً) مع المصالح الدولية الكبرى بين واشنطن وموسكو. وقد يقول آخر إنه ما عاد بمقدور اللاعبين السوريين المحليين، من مختلف الفئات والطوائف، سوى توصيل رسائل عن هواجسهم «لمَن يهمّه الأمر».
في الحالتين، لا يخلو هذا الكلام من الصحّة. ففي صميم اعتبارات تركيا منع وصل «جيب» عفرين (غرباً) بالكتلة الكردية الحدودية الكبيرة شرق «المنطقة الآمنة» في شمال سوريا. وفي شمال غربي البلاد والمنطقة الساحلية، بما فيها جبال العلويين ووادي النصارى، يهم روسيا حماية العلويين والمسيحيين من طموحات «التشييع» الإيرانية. وبما يخص واشنطن، فإنها - كما هو معروف - حريصة على الاحتفاظ بمنطقة نفوذ لها في شمال شرقي البلاد حيث النفط والكتلة الكردية الأكبر. ونصل إلى الجنوب السوري، حيث تبقى إسرائيل اللاعب الصامت القادر على تنسيق حساباته الإيرانية مع كل من موسكو وواشنطن. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أنه إذا كانت واشنطن، فعلاً، قد أعطت «ضوءاً أخضر» لإسرائيل كي تضرب «الحرس الثوري» داخل العراق، فسيكون مستبعداً ألا تتفهّم «قراءتها» لمستقبل المناطق السورية التي تحدها شمالاً.
باختصار، نحن الآن في مرحلة أكثر نشاطاً لكل من واشنطن وموسكو... والسؤال هو عن تأثيرها المحتمل على الطموح الإيراني الذي يغطي الدول العربية الثلاث!