لم تنجح تهديدات إيران لحرية الملاحة في الخليج في تحقيق أهدافها حتى الآن، بل تسير الأمور على ما يبدو في صالح الولايات المتحدة وحلفائها، فالاتفاق النووي أصبح في حكم المنتهي، ممهداً الطريق أمام مفاوضات أشمل للتعامل مع جميع عناصر القلق التي تثيرها تصرفات إيران في المنطقة.
كان للسياسة الإيرانية ثلاثة أهداف رئيسية، الأول هو الإبقاء على الاتفاق النووي وعدم الدخول في مفاوضات جديدة مع المجتمع الدولي بشأن برنامجها النووي أو غيره. والهدف الثاني الضغط على الولايات المتحدة لتخفيف العقوبات، خاصة المتعلقة بتصدير نفطها. والهدف الثالث إقناع أوروبا بتقديم المزيد من التنازلات للتعويض عن الانسحاب الأميركي من الاتفاق.
بعد انسحاب أميركا من الاتفاق وفرضها العقوبات على إيران، قامت طهران بخرق أهم بنود الاتفاق النووي، تلك المتعلقة بتخصيب اليورانيوم، للضغط على أوروبا لتقديم تنازلات، ولكن اجتماع فيينا الأخير في 28 يوليو (تموز) فشل، إذ رفضت إيران إيقاف خروقاتها ما لم تتعهد أوروبا القبول بمطالبها الرامية إلى الحصول على مكاسب اقتصادية إضافية لتعويضها عما تسببت فيه العقوبات الأميركية من آثار اقتصادية، ولكن الأوروبيين رفضوا تلك المطالب.
ومما يضعف فرص استمرار الاتفاق النووي أن الحكومة البريطانية الجديدة برئاسة بوريس جونسون تبدو أقل حماسة له من سابقاتها، ويُتوقع أن تؤيد موقف الولايات المتحدة بالسعي نحو مفاوضات شاملة بدل الاتفاق الحالي الذي يقتصر على الملف النووي.
من ناحية أخرى، هناك أدلة واضحة على أن سياسة «الضغط الأقصى» maximum pressure التي تبنتها أميركا بدأت تظهر نتائجها اقتصاديا وسياسيا. ففي مقالة نُشرت في 27 يوليو كتبها فريدريك كيمب، رئيس Atlantic Council، وهو أحد أهم مراكز الأبحاث في واشنطن، ويُعتبر متعاطفاً مع إيران ومعارضاً لسياسة ترمب، قال كيمب إن أشد منتقدي ترمب بدأوا يعترفون بنجاح تلك السياسة، مضيفا أن «هناك مؤشرات جديدة ومفاجئة بأن سياسة ترمب قد تنجح في تهيئة مفاوضات جديدة نحو اتفاق أفضل». فمنذ شهر أبريل (نيسان) 2019، انهارت صادرات إيران من النفط إلى مستوى 300 ألف برميل يومياً، وانكمش الاقتصاد الإيراني بنسبة 6 في المائة، وخلال السنة الماضية فقدت العملة الإيرانية 60 في المائة من قيمتها.
ويبدو أن هذه التطورات تدفع إلى حل سياسي للأزمة وفق الشروط الأميركية، من خلال مفاوضات شاملة بمعنى الكلمة، أي تشمل جميع الأطراف المعنية وتغطي جميع عناصر الخلاف مع إيران. وقد بدأ بعض ساسة إيران بالتلميح إلى قبول المفاوضات، بعد أن فشلت سياسة المواجهة والعنف.
وهذا التطور الجديد يختلف تماماً عما كان عليه رد إيران الأوّلي على سياسة الضغط الأميركية، حين كان ردها متحدياً وعنيفاً، فخرقت الاتفاق النووي من جهة وشنت سلسلة هجمات على أهداف أميركية وعلى ناقلات النفط في الخليج ومنشآت نفطية ومدنية في المملكة العربية السعودية، فضلاً عن إسقاط الطائرة الأميركية المسيّرة.
بدأ بعض الساسة الإيرانيين بالحديث عن الحاجة إلى المفاوضات والبحث عن حلول وسط. فقال الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، المحسوب على التيار المتشدد إن «ترمب رجل عملي، وبصفته رجل أعمال فإنه يعتمد على حسابات الربح والخسارة في قراراته. ولهذا نقول له فلنحسب مكاسب وخسائر بلدينا على المدى البعيد، وألا نكون قصيري النظر». ووافق أحمدي نجاد على أن ثمة قضايا أخرى تتعدّى الملف النووي قد تتطلب «نقاشاً عميقاً». وطرح قادة إيرانيون آخرون أفكاراً مشابهة، ومع أنهم يرفضون فكرة التفاوض مع ترمب، فإنهم لا يمانعون من التفاوض مع أطراف أخرى في أوروبا والخليج.
ولكن لكي تنجح المفاوضات القادمة فإنها يجب أن تكون أكثر شمولية من الاتفاق النووي، فيجب أن تنضم إليها الأطراف المعنية، خاصة مجلس التعاون. ويجب ألا يقتصر التفاوض على الملف النووي، بل يشمل برنامج الصواريخ الباليستية وأنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها.
ولا تبدو هذه المفاوضات بعيدة المنال، فسياسة ترمب تجاه إيران تحظى بدعم من قبل الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وهي سياسة قوية تقوم على الضغط الاقتصادي والسياسي على إيران، وزيادة القدرات العسكرية الأميركية في المنطقة لردعها، وتعزيز الشراكة القوية مع مجلس التعاون في جميع المجالات، بما في ذلك العسكرية والأمنية. ولهذا فإن هذه السياسة لن تكون محل تجاذب كبير خلال الحملات الانتخابية القادمة في عام 2020 بخلاف العمل العسكري الذي ستتفاداه الإدارة الأميركية قبل الانتخابات.
وكما في أميركا، فإن قادة أوروبا الجدد ليسوا معنيين كثيراً بالإبقاء على الاتفاق النووي الحالي، الذي لم يكونوا طرفاً في المفاوضات التي قادت إليه، وليس لديهم نظرة إيجابية نحو إيران. فالحكومة البريطانية الجديدة ستكون في الغالب أكثر واقعية في تعاملها مع هذا الاتفاق، وستدفع نحو مفاوضات أكثر شمولاً هذه المرة. وبالمثل فمن المتوقع أن يعيد قادة الاتحاد الأوروبي الذين سيتسلمون مناصبهم في بداية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، النظر في أمن الخليج، وألا يختزلوه في الاتفاق النووي.
ولن يكون تعزيز الترتيبات العسكرية في الخليج عائقاً أمام المفاوضات، بل العكس. فهذه الترتيبات، وهي دفاعية في الدرجة الأولى، تهدف إلى إقناع إيران باللجوء إلى الحل السياسي لأنها لن تحقق أهدافها عن طريق القوة.
وقد سبق لمجلس التعاون أن طرح فكرة الحل السياسي وأرسل لإيران مقترحات للإطار المناسب لذلك الحل. وخلال الأزمة الحالية، أعلن المجلس موقفه بوضوح، فعلى سبيل المثال أكد البيان الختامي للقمة الطارئة في مكة في 30 مايو (أيار) تفضيله للحل السياسي، ودعا إيران إلى تجنيب المنطقة ويلات الحروب والاحتكام إلى ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي والمبادئ التي تحكم تصرفات الدول، وهي المبادئ التي سبق لمجلس التعاون أن اقترحها على إيران منذ أكثر من سنتين.
من المتوقع أن تقود الولايات المتحدة المفاوضات القادمة مع إيران، فهي التي اقترحتها. حتى إيران تُدرك أن واشنطن تمتلك مفاتيح الحل. ومع ذلك، لا يتوقع أن تنفرد الولايات المتحدة بهذه المفاوضات، بل ستسعى أولاً إلى بناء توافق مع الدول ذات العلاقة يتم من خلاله تحديد القضايا محل الخلاف، وطرق معالجتها، ومن ثم يتبع ذلك المفاوضات مع إيران.
7:44 دقيقه
TT
إيران تفشل بفرض إرادتها في الخليج
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة