تكررت حالات التشظي في حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، ونأى الكثير من أنصاره بأنفسهم عن تأييد مواقفه، وأسّس مهندسا السياسة الخارجية للحزب أحمد داود أغلو وعلي باباجان حزباً منافساً، وتدهورت علاقات تركيا مع حلفائها التقليديين في أميركا وأوروبا، بعد أن تدهورت مع دول الخليج.
تبدو قضيتان على وجه الخصوص وراء هذا الانهيار في قدرة الحزب على الاستمرار في الحكم؛ الأولى سياسية وهي فقدان الحزب لمدينة إسطنبول كقاعدة سياسية، والأخرى هي الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تواجهها تركيا.
ومن المفارقات أن حزب «العدالة والتنمية» وصل إلى الحكم عام 2002 على خلفية الانهيار الاقتصادي في عام 2001، مدعوماً بقاعدته القوية آنذاك في إسطنبول التي كان يرأس بلديتها رجب طيب إردوغان، الذي اختاره الحزب رئيساً للوزراء.
نجح الحزب بعد ذلك الإنجاز التاريخي في إخراج تركيا من أزمتها الاقتصادية وعُزلتها الخارجية.
ولكن ذلك كله مهدد اليوم بالزوال. ففي 31 مارس (آذار) 2019 انتهى تفرد الحزب بالسياسة الداخلية، حين فاز مرشحو المعارضة في الانتخابات البلدية في كبرى المدن التركية (إسطنبول، أنقرة، إزمير). هزيمة إسطنبول كانت موجعة بشكل خاص، إذ كان هناك افتراض أن المدينة قاعدة سياسية صلبة للحزب والرئيس إردوغان، عمدتها السابق. ولكن إسطنبول اختارت مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو، على مرشح حزب العدالة بن علي يلدريم، رئيس الحزب ورئيس الوزراء سابقاً، فطالب حزب العدالة بإعادة الانتخابات، وتم ذلك في 23 يونيو (حزيران)، ولكن أكرم فاز مرة أخرى بهامش انتصار أكبر كثيراً من المرة الأولى.
وربما تكون الأزمة الاقتصادية أكثر إيلاماً للحزب الذي جاء للحكم لأول مرة في تاريخه على خلفية انهيار عام 2001، الذي سبّبته سنوات من تراكم عجز الميزانية والدين الحكومي وهروب رؤوس الأموال، وانخفاض معدلات السيولة لدى البنوك بعد أن تقاعست الحكومة عن تسديد ديونها. وحاولت الحكومة سد العجز عن طريق رفع الضرائب، ولكنّ ذلك أثقل كاهل الاقتصاد، فارتفعت معدلات البطالة والتضخم معاً، أما معدلات الفائدة فارتفعت بمعدل 3 آلاف%، وانهار سعر صرف الليرة إلى مليون ونصف المليون مقابل الدولار.
نجح حزب العدالة بعد وصوله للحكم عام 2002 في إنقاذ الاقتصاد التركي، وتحقيق معدلات نمو صحية لفترة تجاوزت عشر سنوات، ورفع ذلك من مكانة تركيا الإقليمية والدولية.
ومع أن الناخب التركي كان يقدر إنجاز حزب العدالة والتنمية في إنقاذ الاقتصاد التركي، إلا أنه بدأ في لوم الحزب على فشله في المحافظة على تلك النجاحات، وعلى سوء إدارة الأزمات الخارجية والداخلية، بل صناعتها أحياناً.
هناك مؤشرات واضحة اليوم تُذكّر بالوضع الذي كان سائداً قبل أزمة 2001: تدهور ثقة المستثمرين في الاقتصاد بسبب عدم الاستقرار السياسي، واعتقال أو فصل عشرات الآلاف من العمل الحكومي والقضائي وقوى الأمن، وتضييق الخناق على المعارضة، وتقييد حرية التعبير، حيث تعتقل تركيا أكبر عدد من الصحافيين في العالم.
وكثرت الاتهامات بالفساد والمحسوبية حتى في المناصب العليا، والكسب غير المشروع في سوق الأسهم. وفيما يتعلق بإيران، أدانت محكمة أميركية أحد المقربين من الرئيس التركي بالاتجار غير المشروع عن طريق خرق العقوبات على إيران، مما أثار قلق المستثمرين الأجانب خشية أن يؤدي ذلك إلى عقوبات أميركية ضد تركيا نفسها، خصوصاً بعد أن أظهرت تركيا عدم رضاها عن العقوبات الأخيرة ضد إيران.
بدأ الانهيار الاقتصادي في تركيا تدريجياً، قبل محاولة الانقلاب في 2016، ولكنه تسارع بعد ذلك. فانخفض الناتج المحلي الإجمالي ودخل الفرد بنسبة 25% خلال السنوات الخمس الماضية، وتعاني تركيا اليوم مما يسميه الاقتصاديون «الكساد المصحوب بالتضخم»، فمعدل البطالة ومعدل التضخم قد تجاوز كلاهما 10%، وهي ظاهرة قليلة الحدوث. وفقدت العملة التركية 40% من قيمتها خلال أشهر قليلة، مما رفع من قيمة الواردات ولكنه لم يعُد بالفائدة على الصادرات، خلافاً للمعهود، فالعجز التجاري يتّسع بدل أن ينكمش، مما أدى إلى انخفاض احتياطي العملات الأجنبية بنسبة 25% خلال تلك السنوات الخمس.
في شهر مارس دخلت تركيا رسمياً مرحلة الانحسار الاقتصادي، حين انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3%، وشهد إنتاج الصناعة التركية خمسة أشهر متوالية من الهبوط.
وخلال الأسابيع الماضية، شهد سعر صرف الليرة، وسعر الفائدة، وسوق الأسهم تقلبات ضخمة جديدة عجز البنك المركزي عن معالجتها وضمان استقرار سعر صرف الليرة. وبدأت البنوك الأجنبية والمؤسسات المالية الدولية بالتعبير عن قلقها خشية انعكاس الأزمة الاقتصادية في تركيا على الاقتصاد الدولي.
زاد عزل رئيس البنك المركزي التركي وتدخل الحكومة المباشر في تفاصيل السياسة النقدية للبنك من قلق المجتمع الدولي، كما حيّرت الخبراء النظريات السياسية والاقتصادية غير المألوفة للمسؤولين الأتراك.
فقبل هزيمة حزب العدالة والتنمية في انتخابات مارس، قال الرئيس إردوغان إن التقلبات في سعر الليرة كان نتيجة خطة وضعتها الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، للتأثير على نتائج الانتخابات وإضعاف تركيا، مضيفاً أنه سوف «يقوم بتخفيض التضخم عن طريق تخفيض سعر الفائدة»، وهذه نظرية لا يعرفها الاقتصاديون، وتتعارض مع المسلّمات الاقتصادية، لكن إردوغان كررها مرة أخرى في اجتماع مع المستثمرين الأجانب في لندن في شهر مايو (أيار)، والأغرب من ذلك، أن الحكومة التركية وضعت حلولاً مبنية على هذه النظرية في خطتها الاقتصادية الرسمية للأعوام 2019 – 2023، وهي خطة التنمية الحادية عشرة، التي قدمتها الحكومة للبرلمان في بداية هذا الشهر.
بالمختصر، خسر حزب «العدالة والتنمية» قاعدته القوية في إسطنبول، ومعها كُبرى مدن تركيا، وخسر رهانه حتى الآن على إنقاذ الاقتصاد، فهل أصبحت أيامه في الحكم معدودة، خصوصاً بعد أن دخلت تركيا في خلافات حادة مع عدد من حلفائها وأصدقائها التاريخيين؟ الجواب في أيدي مَن تبقّى من قيادة الحزب لتصحيح المسار.
TT
أزمتان تعصفان بحزب «العدالة والتنمية» في تركيا
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة