إميل أمين
كاتب مصري
TT

الخطاب شيء والاسترتيجية شيء آخر

هل انتقل العالم من مرحلة «الغموض البناء»، تلك التي بشر بها ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر في سبعينات القرن الماضي، إلى زمن «الفوضى المصطنعة» التي نعيشها في حاضرات أيام باراك أوباما؟
ربما ينبغي ألا ننسى ما بينهما، فقد روجت كوندوليزا رايس، وزيرة خارجية بوش الابن، في منتصف العقد الأول من القرن الحالي، ما سمته «الفوضى الخلاقة». وما بين المراحل الثلاث، يفقد العالم الكثير جدا من سلامه وتوازنه، وتضحى علامة الاستفهام في هذا المقام: هل ما نراه هو تخبط وعشوائية أميركية بالفعل، أم أن الأمر ترتيبات واستراتيجيات، معد لها بليل بهيم؟
على مر سنوات طوال، مضت الإدارات الأميركية المتعاقبة على نهج كيسنجر، الغموض البناء، أي السياسات التي يمكن أن تقرأ على وجهين أو أكثر، والتي لا تحمل التزاما أميركيا واضحا وصريحا تجاه قضية بعينها، أو تعهّدا خالصا بإنهاء أزمة بذاتها، ومن دون مداراة أو مواراة، يمكن القول: إن سياسة «الغموض البناء»، هي المرادف الحقيقي لتعمد الخداع والمراهنة من أجل تجاوز وقتي لأي أزمة، بما لا يكلف واشنطن مسؤولية حقيقية، أو يرتب تبعات واستحقاقات تعيد للشعوب حقوقها المهضومة، أو ترفع يد الظلم عن المظلومين، ولعل أفضل مثال لتلك السياسات غير البناءة بالمرة، التعاطي الأميركي مع القضية الفلسطينية منذ اعتراف واشنطن بقيام دولة إسرائيل، وحتى الساعة.
استطاعت واشنطن، وباحتراف غير مسبوق، التلاعب بمقدرات كثير من الأمم والشعوب في العقود الماضية، إذ وضعت هؤلاء وأولئك بين الترهيب بالعصا والترغيب بالجزرة، الأمر الذي عمّق فكرة غموض السياسات الأميركية، والأهداف المستقبلية للإمبراطورية المنفلتة، وإن كانت البراغماتية تغلفها أبدا ودوما.
الذين استمعوا إلى خطاب الرئيس أوباما الأخير واستراتيجيته بشأن «داعش»، تساءلوا: هل الرجل صادق في بكائياته على العراق من جراء ما ارتكبته وترتكبه جماعة «داعش» الإرهابية هناك؟
ربما يحق للمتابع المحقق والمدقق أن يطرح عدة أسئلة، تبدأ من عند: «مَن وراء (داعش) وتمويلها وزخمها الآيديولوجي من جهة، وتقدمها اللوجيستي المثير للشكوك والشبهات من جهة ثانية؟ ولا تنتهي عند: لماذا الآن يا أوباما؟».
«هل ظهرت (داعش) كأداة لإحداث فوضى مصطنعة تجبر العراقيين على الاستغاثة بـ(الناتو) وأميركا وبريطانيا، رأس حربته، بنوع خاص؟».
السؤال من الوجاهة بما يكفي ليعيد التذكير بأن مثلث القوى الخفية الأميركي - المتمثل في المجمع الصناعي العسكري واللوبي المالي في وول ستريت، والهيئات الاستخباراتية - كان وعلى الدوام، يبحث دون كلل أو ملل عن عدو جديد، ومصادر تهديد متنوعة تكفل له تدفق بلايين الدولارات إلى الجيوب الخاصة بعد نهاية الحرب البادرة، وهنا ظهر - أو بمعنى أدق «أُظهِر» - مثلث آخر، أضلاعه هي: «الدول المارقة»، و«الإرهاب العالمي»، عطفا على «الإسلام الأصولي»...
ما جرى ويجري في الشرق الأوسط من تصنيع للجني الجديد، جني «داعش»، بالقطع شأن مقصود في إطار استراتيجية الفوضى المصطنعة التي تتيح لأصحاب الحل والربط المضي قدما في تنفيذ برامج السياسات الواقعية الأميركية، لا سيما أصحاب البزات العسكرية المزركشة.
في مايو (أيار) 1989، تحدث الجنرال كارل فونو، رئيس أركان الجيش الأميركي، أمام الكونغرس، قائلا: «إن التهديد المتنامي في بقية العالم، أكثر تعقيدا وأخطر بكثير من التهديد الذي كان يشكله الاتحاد السوفياتي».. هل يتم تخليق مثل هذه التهديدات، مما يضمن دوران عجلة الحرب واستمرار عمل المصانع العسكرية العملاقة؟
أكثر من مرة قلنا إن آفة أميركا الحقيقية هي النسيان، نسيان أخطائها التي هي أقرب إلى الخطايا، إنها بارعة جدا في تخليق الوحش، لكنها عادة ما تعجز عن مواجهته أو تحمّل تكاليف تبعاته، وعلى غير المصدَّق أن يُنظَر إلى حال الفوضى العالمية المنتشرة، شرقا وغربا؛ بدءا من المواجهة بين حماس وحكومة نتنياهو، مرورا بأفغانستان التي تترنح فيها خطط أوباما حول خروج منظم بحلول نهاية العام الحالي، وصولا إلى المواجهة المحتملة بين روسيا وأوكرانيا، التي لعبت فيها واشنطن دورا واضحا في إثارة كييف وتحفيزها على مواجهة موسكو، ثم تركت الأولى لقدرها أمام الدب الروسي، وصولا إلى ليبيا التي انزلقت في فوضى عنيفة، وسوريا التي أضحت المصدر الرئيسي لـ«داعش».. ماذا يعني ذلك؟
من دون تطويل ممل ولا اختصار مخل، يعني أن الفوضى المصطنعة قد أمسكت بأطراف العالم، وأن واشنطن غير قادرة، لا في الحال ولا في الاستقبال، على القيام بدور «رجل الإطفاء» الكوني، مما يقود لاحقا إلى تفكك، وتحلل ربما يستمر عقدا أو عقدين من الزمان، لحين صعود أقطاب دولية متعددة تعمل معا على إعادة التوازن لعالم مختل ومضطرب.
لا دالة حقيقية للرؤى الحضارية الإنسانية التي تنقذ البشرية من التهلكة على الأميركيين، إنهم بارعون في تصدير نظريات الصدام والمواجهة، في حين يحتاج العالم إلى سياسات حضارية تليق بالتطور الطبيعي للإنسان؛ سياسات تحتوي التهديدات بعقلانية، وتحد من المواجهات بخطط بعيدة عن عنف اللاهوت السياسي.
عالم ما بعد أميركا الذي نعيشه حكما الآن يستدعي ابتكار رؤى لمعالجة المشاكل الآنية الحرجة، وحال غيابها، فإن هذا يعني أن عالمنا محكوم عليه؛ إما بالتقهقر والموت وإما بالتغيير، وبرفضنا التقهقر وبمقاومتنا الموت نستطيع العمل على تحقيق التغيير والوصول إلى عالم خالٍ من الفوضى البناءة أو الخلاقة، ناهيك بالمصطنعة.