د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

نساؤُنا السفيرات

رغم كل ما يمر به الفضاء العربي الإسلامي من مشاكل وتوترات ومؤشرات تبعث على التشاؤم والحيرة في أقل الحالات، فإننا لا نستطيع أن ننكر أن هناك حراكاً في أكثر من مجال وتوجد مظاهر تفاؤل وأمل وعلامات تدل على مكاسب حقيقية بدأت تتحقق وتتراكم ويمكن التعويل عليها في مواجهة غول التشاؤم وأسبابه الجديّة.
ذلك أن رهان البلدان العربية منذ تواريخ الاستقلالات على التعليم، ونضال الحركات الإصلاحية التحررية على تعليم البنت العربية المسلمة منذ عقود طويلة، قد بدآ يعطيان أكلهما بشكل مزدهر، خصوصاً أن تحسن واقع المرأة العربية على أكثر من صعيد هو في حد ذاته علامة إيجابية على مسار التغيير الثقافي في البلدان العربية.
سأنطلق من الحدث المهم الذي شغل وسائل الإعلام في الأيام الأخيرة والمتمثل في تعيين الأميرة ريما بنت بندر سفيرة للمملكة العربية السعودية لدى الولايات المتحدة. ويبدو لنا أن أهمية هذا التعيين لا تكمن فقط في كون صاحبته أول امرأة في تاريخ السعودية تتقلد رئيسة بعثة دبلوماسية وفي سفارة استراتيجية جداً، بل إن الأمر تكمن أهميته الجوهرية في تزايد عدد السفيرات العربيات وتأكد الرهان على دور المرأة العربية في الدفع بالدبلوماسية العربية نحو الأمام.
طبعاً نحن نعلم أن العمل الدبلوماسي ذكوري بالأساس في الفضاء العربي الإسلامي، ولكن رغم ذلك فإن تعيين نساء سفيرات ليس بالأمر الجديد ويمكن الحديث عن تاريخ المرأة العربية في مجال الدبلوماسية حتى لو كان شحيحاً ويتميز بالندرة على مستوى الكم. وفي هذا السياق نشير إلى تعيين الراحل أنور السادات للمحامية والسياسية عائشة راتب سفيرة لدى الدنمارك ثم لدى ألمانيا. أيضاً تم تعيين المغربية الأميرة جمالة العلوي سفيرة المملكة المغربية في لندن ثم لدى الولايات المتحدة.
كذلك في تونس نذكر تعيين السيدة راضية المستيري سفيرة لتونس في أكثر من عاصمة، والسيدة نزيهة زروق لدى لبنان، وأخريات... وهو ما يجعلنا نستنتج أن قائمة أسماء السفيرات العربيات بدأت تطول وتتسع في العقدين الأخيرين.
ولعله من المهم الإشارة ببعض الحذر إلى أن ترؤس المرأة للعمل الدبلوماسي في العالم ليس بالعريق كما يذهب في ذهن البعض، فمثلاً في فرنسا بلد الثورة الفرنسيّة لم يتم تعيين امرأة سفيرة لفرنسا إلا عام 1972 وتدعى مارسيل كامبانا (Marcelle Campana)، حيث كانت سفيرة لدى باناما.
أيضاً هناك ملاحظة تستحق الانتباه وهي أنّه في السنوات الأخيرة أصبحت الدول الأوروبية ترسل نساء على رأس بعثاتها الدبلوماسية للبلدان العربية. كما أنه بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 عينّت الولايات المتحدة سفيرات لدى بلدان عربية نذكر منها الجزائر والإمارات العربية والمغرب... وهو تعيين استراتيجي ومقصود، حيث إن المرأة في الدبلوماسية الأميركية وأيضاً الأوروبية أظهرت تمكناً في التغلغل في أوساط النخب والاقتراب منها وفهم مجتمعاتنا، إذ أصبحت السفارات الأميركية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 منفتحة على النخب العربية بمختلف أطيافها وأكثر نشاطاً دبلوماسياً مقارنة مع فترة ما قبل الأحداث المشار إليها.
إنّ تزايد عدد النساء السفيرات في العالم بشكل عام فسره المهتمون بهذه المسألة بأن الجندرة في مجال الدبلوماسية قد أضحت من بين أولويات القرن الحادي والعشرين. ويبدو لنا أن بداية التراكم الكمي لعدد السفيرات العربيات يندرج ضمن هذا الأفق العالمي، باعتبار أن قيم المواطنة والتحديث قد هبت بوتيرات مختلفة ولكنها شملت العالم بأرجائه المختلفة والمتفاوتة.
أيضاً نوعياً أثبتت المرأة العربية جدارة وكفاءة، ويكفي النظر في السير الذاتية لنسائنا السفيرات حتى نشعر بالفخر وباستحقاقهن لمثل هذه المناصب المرموقة والمهمة. وإذا كان تعيين نساء في البرلمانات أو منحهن حقائب وزارية قد يتم أحياناً تحت ضغط الانتماء الحزبي السياسي وأحياناً يستجيب لتوجه المحاصصة الذي اختارته بعض البلدان للتشجيع على مشاركة المرأة في الحياة السياسية، فإن الدبلوماسية ظلت رهينة الكفاءة في اللغات والكفاءة العلمية، وهذا يزيد في تثمين جندرة الدبلوماسية العربية بحكم غلبة عامل الكفاءة أولاً وأخيراً.
لنأتِ الآن إلى الرسالة التي نرسلها للعالم عندما نراهن على النساء بصفتهن رئيسات بعثات دبلوماسية، وهي نقطة مهمة جداً في اللحظة الحضارية الثقافية الملتبسة التي يعرفها الفضاء العربي والإسلامي بشكل عام، ذلك أن مجرد وجود امرأة سفيرة في عواصم كبيرة هو في حد ذاته رسالة تمحو كثيرا من الأفكار المسبقة وتغير ولو جزئياً أفكار الأوروبيين عنا. ونعتقد أن خبر تعيين أول امرأة سعودية في منصب سفيرة هو في حد ذاته دعاية مهمة جداً للمملكة ولمنطقة الخليج وللعرب المسلمين. بمعنى آخر، فإن نساءنا السفيرات دون استثناء هن وجه العالم العربي والجزء الجميل من حقيقته التي أساء إليها الظلاميون. كما أن نساءنا السفيرات دليل صارخ على أننا بصدد التغيير والتقدم وأن هناك تنمية وثمرات في ربوع العالم العربي، وأننا أيضاً في تفاعل مع قيم التحديث والمواطنة ونؤمن مثل غيرنا بالمساواة بين الجنسين وبكفاءة المرأة.
وكل هذه الرسائل كي تصل إلى أكثر ما يمكن من حاملي الأفكار المسبقة لا بد من نشاط دبلوماسي كبير ومن تأطير إعلامي يجيد إبرازه.