زاهي حواس
عالم آثار مصري وخبير متخصص بها، له اكتشافات أثرية كثيرة. شغل منصب وزير دولة لشؤون الآثار. متحصل على دبلوم في علم المصريات من جامعة القاهرة. نال درجة الماجستير في علم المصريات والآثار السورية الفلسطينية عام 1983، والدكتوراه في علم المصريات عام 1987. يكتب عموداً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» حول الآثار في المنطقة.
TT

المسلات في قعر النيل

لم يكن أحد يتصور أن نهر النيل مليء بالأسرار، فقد كان هذا النهر وسيلة المواصلات الأساسية للفراعنة منذ أقدم العصور. وكان هو الوسيلة الوحيدة لنقل الأحجار التي استعملها الفراعنة في بناء الأهرامات والمعابد والمقابر من الجنوب، خاصة من النوبة السفلى التي كانت توجد بها محاجر الديوريت، والتي تعتبر حجارتها من أصلد الأحجار، ونحت منها التمثال الشهير للملك خفرع المعروض حاليا بالمتحف المصري. وكان هذا النوع من الحجر تنقله المراكب من الجنوب إلى الشمال، بالإضافة إلى مناجم الذهب التي كانت موجودة بالنوبة. ولدينا أول وأهم خريطة لهذه المناجم من عهد الملك سيتي الأول وموجودة حاليا بمتحف تورين بإيطاليا. ونعرف أن الذهب كان في مصر كثيراً. ولدينا خطاب أرسله الملك ميتاني إلى الملك أمنحتب الثالث يقول فيه: «أرسل لي ذهباً؛ لأن الذهب في مصر مثل التراب». وقد نقل أيضاً الفراعنة المسلات والتماثيل الضخمة من محاجر الجرانيت بأسوان إلى منف (القاهرة الآن). وغطوا سطح الأهرامات بالجرانيت مثل هرم الملك منكاورع وهرم الملك خفرع. وقد نقلوا أيضاً التماثيل الضخمة من المحاجر التي يوجد فيها الحجر الرملي من منطقة جبل السلسلة، بالإضافة إلى محاجر الألباستر التي توجد في منطقة حتنوب التي تجاور منطقة تل العمارنة الشهيرة التي عرفت باسم «آخت آتون» أي «أفق آتون»، والتي عاش فيها إخناتون وكان يعبد الإله آتون الإله الواحد. وكذلك نقلوا الأحجار الجيرية من محاجر طرة إلى منطقة الأهرامات. ولدينا أعظم كشف في القرن الحادي والعشرين وهو كشف بردية وادي الجرف، التي يحدثنا فيها رئيس العمل «مرر» عن نقل قطع ونقل الأحجار من طرة على مراكب ضخمة إلى منطقة أهرامات الجيزة.
ولنا أن نتصور ونعود إلى الماضي البعيد منذ آلاف السنين، أي ما يزيد على خمسة آلاف عام، ونتصور المراكب التي كانت تنقل المسلات الضخمة والتماثيل وأن بعض هذه المراكب قد تعرضت للغرق في نهر النيل. ولدينا دليل من العصر الحديث، فقد حاول العاملون في الآثار في القرن الماضي أن ينقلوا مسلة صغيرة لا يزيد وزنها على خمسة أطنان، وغرقت السفينة بالمسلة على بعد نحو 15 كلم فقط من معبد الأقصر.
وكانت المحاجر والمناجم المصدرين الرئيسيين للمصري القديم لبناء المقابر والمعابد والمسلات والتماثيل. وأعتقد أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى مصر هذه الكنوز من الأحجار لإقامة هذه الحضارة العظيمة. وهذه الميزة لا توجد في أي حضارة قديمة أخرى حتى إن البعض أطلق على مصر اسم «دولة الحجر». وقد ساعد ذلك المصريين القدماء في بناء مبان لتحفظهم للحياة الأبدية في العالم الآخر. وكي نحدد أهمية البحث عن الآثار في قعر النيل، يجب أولاً أن نحدد أنواع هذه الأحجار، ومكان المحاجر التي استخرجت منها. وقد أشرنا إلى محاجر الديوريت من قبل، والتي تقع شمال غربي أبو سمبل. وقد انتشرت محاجر الجرانيت في أماكن كثيرة في أسوان، وأهمها المحاجر التي تقع في مجرى النهر، وتنتشر هذه المحاجر في جزيرة ألفنتين وجزيرة سهيل، وكذلك المحاجر الصغيرة بجزيرة ألفنتين بأسوان. وجزيرة سهيل يوجد بها حجر الجرانيت الأسود، وكذلك محاجر الضفة الشرقية، والتي يوجد بها محجران رئيسيان للجرانيت الوردي الأول المعروف باسم المسلة الناقصة، والآخر يقع بالجندل جنوب أسوان، ويوجد به كثير من الآثار غير المكتملة والتي تركها المصري القديم. وبدأنا أول مشروع مصري للبحث عن الآثار الغارقة في قعر النيل.