جميل مطر
كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي.
TT

بوتين وترمب متفاهمان... ولكن إلى أي حد؟

أتفهم حال مشرعين أميركيين لم يحصلوا بعد من جهة أميركية مسؤولة على محاضر، أو حتى خلاصات وافية لمحاضر، ثلاثة لقاءات عقدها الرئيسان الأميركي والروسي على انفراد، خلال عام ونصف من ولاية الرئيس دونالد ترمب. أتفهم حال مشرعين وقادة رأي أميركيين، ولم أهتم بحال مشرعين وقادة رأي روس. فقد تعودنا كمراقبين أجانب، وتعودوا هم أنفسهم، وأقصد الروس، على أن يقول رئيس الكرملين في أي اجتماع مع رئيس لدولة أجنبية ما شاء له أن يقول، في غياب حسيب أو رقيب أو حتى ناصح أمين.
لا يدفعني لحال الاحتجاج شعور بالمسؤولية أو الحرص على مصالح وطن لا أنتمي إليه، كالشعور الذي لا شك يثير غضب مشرعين وقادة رأي أميركيين، إنما يحركني الفضول، وفي وضعي وحدود مهمتي هو شعور طبيعي، وإن لم يصنع لي حقاً للمطالبة باطلاعي على فحوى اللقاءات، أو على الأقل عناوين الموضوعات التي جرت مناقشتها، ودوافع كتمانها.
تخيلت، إطفاءً لبعض فضولي، أنهما - لا بد - اتفقا على قضايا بعينها لمناقشتها، والوصول إلى تفاهم حولها. تخيلتهما يناقشان «البريكست» كقضية منفصلة، ومستقبل أوروبا قضية أخرى. تخيلتهما يبحثان أو على الأقل يتبادلان الرأي في الزحف الصيني نحو القمة، وخصوصاً بعد أن تسارعت خطواته، وتعددت الطرق التي يسلكها، والأدوات التي يستخدمها. اخترت هذه القضايا ليس تفضيلاً من جانبي على غيرها، ولكن لأنها الموضوعات والقضايا التي استجابت عناوينها لسؤال بسيط وجهته لنفسي: لو كنت في مكان أحدهما، وسنحت لنا فرصة حديث معمق وصريح حول قضايا لو تركناها تتدهور وقضايا لو تركناها تحل نفسها بنفسها، فسوف تصيب علاقتنا وتهدد أمن دولتينا وتشوه صورتينا في سجلات التاريخ، هل كنت أدع الفرصة تمر دون أن نناقش هذه القضايا المختارة بعناية، بعيداً عن أسماع المعارضين وفضول الإعلاميين؟
التحليل الرصين لتطورات قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سوف يقرر عاجلاً أو آجلاً أن «البريكست» أنهك طرفيه إلى حد غير بعيد عن حد القعود. تشير التحليلات الأولية، وهي كثيرة، إلى أن الخسائر الاقتصادية تجاوزت كل التقديرات المتشائمة، وهذه رغم فداحتها لم تزل ثانوية إذا قورنت بالخسائر الهيكلية والمعنوية، وبما هو أدهى وأعظم، الآثار الاستراتيجية، مباشرة كانت أم غير مباشرة. هنا يدخل «البريكست» رأساً في صلب الأمر الواقع الذي يتقاسم دور البطولة فيه نجما النظام الدولي الراهن، فلاديمير بوتين ودونالد ترمب. الاثنان حددا لنفسيهما هدف تخريب مشروع الوحدة الأوروبية. بوتين بالتأكيد لا يريد رؤية شرق ووسط أوروبا أو رؤية أوروبا السلافية جزءاً من أوروبا موحدة، تقودها ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة. كما أن الرئيس الروسي يعي جيداً أنه إن غابت بريطانيا اختل التوازن، وعجزت ميركل وماكرون عن الاستمرار في توجيه الدفة بكفاءة من بروكسل.
وبالتأكيد أيضاً، لم يزل دونالد ترمب يعمل من دون كلل على إضعاف الاتحاد الأوروبي، تارة بتشجيع المملكة المتحدة على الخروج منه، وصل إلى حد التدخل بشخصه لبث الوقيعة داخل حزب المحافظين؛ بل والطبقة السياسية العتيقة، عندما استدعى لمقابلته السيد فاراج زعيم تيار شعبوي قومي جديد. وتارة أخرى عندما أرسل ستيف بانون مندوباً فوق العادة للتأثير في جميع الانتخابات الرئيسة التي تجري في القارة، بهدف إقامة حكومات يمينية وشعبوية مناهضة لبروكسل. كذلك لم يُخفِ نيته عندما رشح بوريس جونسون، الذي هو على شاكلته مسلكاً وتهذيباً وعدم دراية بتقاليد العمل السياسي وأصول الحكم، وخصوصاً احترام الدستور والقانون، رشحه زعيماً للمحافظين، ورئيساً للحكومة. مطلوب من بوريس جونسون أن يخرج ببريطانيا من أوروبا دون مزيد من المفاوضات؛ لأنه بخروج على هذا النمط يفتح على مصراعيه باباً جديداً لتخرج منه دول أخرى، إيطاليا أولها، ولن تكون المجر آخرها.
أوروبا بالنسبة لكل من الروسي والأميركي أحياناً تعني أشياء مختلفة. تعني بؤرة مشكلات بلا نهاية أو حدود، عانى منها الآباء المؤسسون في أميركا وقياصرة روسيا، وأغلبهم نشأ على كرهها وحبها في آن واحد. أدركت روسيا، تماماً كما أدركت أميركا في وقت مبكر، أن هذا السطح من اليابسة الممتد من المحيط الهادي شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، لا يجوز أن يترك لينفرد بذاته، أو ليخضع لطرف خارجي واحد. حانت فرصة نادرة لأميركا وأضاعتها، وحانت فرصة لروسيا السوفياتية لم تكتمل، وما كان يمكن أن تكتمل.
الخوف كل الخوف الآن في كل من موسكو وواشنطن، أن تكون الساعة قد حلت لتقيم بكين إمبراطورية أوراسية تقود بها العالم. لن ينسى القائمون على الكرملين أن الصينيين انتبهوا منذ وقت مبكر جداً، في الواقع منذ أكثر من خمسة قرون، لأهمية الفكرة الأوراسية، وها هم الآن يشيدون البنية التحتية لشبكات نقل ومواصلات واتصالات، سوف تنقل أوراسيا من حيز التجربة الناعمة في زمن ماركوبولو إلى حيز بآفاق ومهام غير محدودة. الصين لديها ما لم يكن أبداً لدى الروس والأميركيين. لديها الكثافة السكانية والتفوق التكنولوجي. وعلى كل حال لا أحد فيما أظن يستطيع الآن أن يتصور قوة أو جماعة أوراسية لا تكون الصين نواتها. ولا أحد في موسكو يستطيع الآن المجاهرة بحق روسيا التاريخي في المشروع الأوراسي من دون الصين. من هنا أعتقد أن الرئيسين المتكتمين، بوتين وترمب، ما زالا يبحثان وسائل تمنع قيام أوراسيا من تلاقي أو تكامل معظم أوروبا مع معظم آسيا ومركزها بكين، وليس موسكو أو بروكسل.
لا ننكر أن الرئيسين، رغم اختلافات كثيرة، يواجهان مشكلات متشابهة. الاثنان كما نعلم يتمنيان أن يقضيا في الحكم كل أيام حياتهما. بوتين وجد أن الأمر ممكن، وأمام ترمب طريق دستوري وعر لتحقيق هذه الغاية. الهدف المعلن لكل منهما استعادة مكانة بلده، مكانتها بين الدول ومكانة الحكم لدى الجماهير. المهمة صعبة، فأسباب انحدار المكانة في الحالتين كثيرة ومعقدة، حتى أنه يمكن القول إن استعادة مكانة دولة ما في أيامنا هذه قد تكون أصعب من إعادة بنائها من جديد. أضف إلى ما سبق أن كلاً من بوتين وترمب يشددان على فكرة «أميركا أولاً» و«روسيا أولاً» ولديهما من أسبابهما ما لا يمكن الإعلان عنه. لاحظ أيضاً أن الدولتين حريصتان على وقف الهجرة، هجرة غير السلافيين إلى روسيا، وهجرة الناطقين بالإسبانية إلى الولايات المتحدة. نجد أيضاً الدولتين تركبان علانية سفينة التيارات الشعبوية واليمينية، وتشجعان سراً القوى المناهضة للحقوق والديمقراطية. لدينا شكوك غير قليلة حول ما قرراه معاً في شأن الشرق الأوسط. ومن ناحيتي لا أعتقد أن رجوع روسيا إلى الشرق الأوسط وإلى قلبه خاصة، متزامناً مع خروج أميركا وقعا وتعززا ويستمران بالصدفة، ومن دون حوارات هامسة كثيرة بين الزعيمين.
نعم لدى الرئيسين الأميركي والروسي ما يستحق أن يكتماه.