داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

حرب باردة في صيف ساخن

آخر مَن يصلح للوساطة بين الولايات المتحدة وإيران هو رئيس وزراء اليابان شينزو آبي! فالتهذيب الياباني والأدب الإمبراطوري لا يمكن أن يقنعا ملالي طهران بالتراجع عن سياسة تصدير الإرهاب إلى دول العالم شرقاً وغرباً. قد يصلح مصارعو السومو أو محاربو الساموراي لهذه الوساطة؛ فهم مثال للصبر والتحمل والصرامة. أما تكرار الانحناء الياباني الراقي أمام المرشد الإيراني فلا يؤدي إلى نتيجة غير إصرار الأخير على مواقفه، ليس ضد الولايات المتحدة فقط، وإنما ضد العالم كله.
الرد الإيراني على أي وساطة دولية لإبعاد شبح الحرب عن المنطقة جاء سريعاً عبر صواريخ أطلقها الحوثيون الموالون لطهران على مطار أبها المدني السعودي قرب جدة. وجاء فورياً أيضاً عبر الاعتداء الفارسي على ناقلتي نفط في بحر عُمان، إحداهما نرويجية، والأخرى وهي ليست بالصدفة يابانية!
في الثمانينات من القرن الماضي لام كثيرون الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لأنه لم يلجأ للحوار مع النظام الإيراني قبل توغل الجيش العراقي في الأراضي الإيرانية، متجاهلين أن ملفات وزارة الخارجية العراقية قبل الحرب كانت متخمة برسائل المجاملات والتمنيات والكلام الهادئ لحل المشكلات العالقة بين البلدين، وفي مقدمتها احتلال القوات الإيرانية بعض مراكز الحدود العراقية الرسمية، وقصفها لمدن حدودية عراقية في القاطع الأوسط من الحدود، وفي القاطع الشمالي حيث الأكراد. لم يذهب صدام بجيشه إلى الحرب على حين غرّة ولا للاستعراض، وإنما اضطر إلى ذلك نتيجة الصلف الإيراني منذ عودة الخميني إلى طهران في عام 1979 بعد أن كان البلدان في عهد الشاه محمد رضا بهلوي قد توصلا في عام 1975 إلى اتفاق لحل المشكلات الحدودية البرية والنهرية بالطرق السلمية. جاء الخميني وأعلن أنه لا يعترف بذلك الاتفاق، فردّ عليه صدام بتمزيق الاتفاق علناً أمام كاميرات التلفزيون.
هكذا كانت البداية. وهذا ليس دفاعاً عن الموقف العراقي، ولكنه توضيح للعقلية التي تُدار بها الأمور في إيران منذ مجيء حكم الملالي. هذا نظام لا يعرف إلا لغة القوة. وهو يطبق هذا الغرور النرجسي منذ سنوات على شعبه أولاً، ثم حين حانت الفرصة طبّقها في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وفي حالات عاشتها الكويت والبحرين والسعودية، وعبرها استولى في عام 1971 على الجزر الإماراتية الثلاث، كما استولت «إسرائيل» على القدس والجولان والضفة الغربية وسيناء في عام 1967.
قبل شهرين، أعلن الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب، وتصرف، كما لو أننا سنصحو من النوم في اليوم التالي على قصف الصواريخ الأميركية لطهران ومفاعلاتها النووية ومصانعها الحربية ومستودعاتها الصاروخية، ثم اتضح أننا نشاهد فيلماً سينمائياً أميركياً من أفلام أرنولد شوارزنيغر أو سلفستر ستالون أو هارسون فورد، ينتهي دائماً برحيل البطل في سيارته وسط الصحراء، في طريق ممتد «لا آن ولا وَدان»، أي «لا إنس ولا جان»!
يقول الكاتب الأميركي لي ألن زاتاريان، في كتابه «حرب الناقلات»: «جلس صدام حسين يشاهد في التلفزيون إطلاق إيران صواريخ (دودة القز Silkworm) ضد السفن الأميركية في حرب الناقلات الأولى في الثمانينات من القرن الماضي». وهي عمليات، كما يقول الكاتب، لو تم الإعلان عنها في ذلك الوقت لأعلن الكونغرس الحرب ضد إيران. لكن واشنطن ردّت آنذاك بقيام البحارة الأميركيين على متن السفينة الحربية «يو إس إس فينسنس» بإطلاق صاروخين على طائرة إيرانية من نوع «إيرباص» كانت تحلق من ميناء بندر عباس الإيراني إلى دبي. وأدى سقوطها إلى مقتل 290 شخصاً. وقع الحادث في 3 يوليو (تموز) 1988 قبل شهر واحد من نهاية الحرب حين فهم خميني الرسالة واضطر إلى إعلان قبوله وقف إطلاق النار وتجرعه كأس السم اعتباراً من 8 – 8 - 1988؛ خاصة أن الجيش العراقي كان أكمل تحرير أراضيه من الاحتلال الإيراني في ميناء الفاو وبعض الجيوب في الشمال.
أدت حرب الناقلات بين العراق وإيران إلى تدمير 546 سفينة تجارية وناقلة نفط ومقتل 430 بحاراً مدنياً. وذكرت مؤسسة «للويدز – لندن» البريطانية للتأمين أن الجزء الأكبر من الهجمات نفذه العراق ضد السفن الإيرانية؛ إذ شن 3 أضعاف الهجمات الإيرانية، على الرغم من أن العراق لم يكن يملك سفناً حربية قادرة على الإبحار إلى مسافات بعيدة، وكان يلجأ في الدرجة الأولى إلى قوته الجوية الضاربة من طائرات مروحية ومقاتلات من طرازي «ميراج 1 – إف» الفرنسية، و«ميغ 23» السوفياتية المسلحة بصواريخ «كروز» المضادة للسفن.
في بداية الحرب استهدف العراق السفن الإيرانية التي تحمل إمدادات متجهة إلى جبهات القتال البرية، ثم شمل القصف السفن التي تحمل صادرات إيرانية إلى الخارج رداً على هجوم إيراني دمر واحتجز سفناً عراقية حربية وتجارية راسية في الموانئ العراقية في شط العرب ومياهه الإقليمية في الخليج. وأعلن العراق في الجولة الأولى من الحرب في مايو (أيار) 1981 أن جميع السفن المتجهة إلى الموانئ الإيرانية في المنطقة الشمالية من الخليج قرب الحدود العراقية ستصبح هدفاً للنيران العراقية. وفي عام 1984 صعّد العراق هجماته لتدخل حرب الناقلات مرحلة جديدة، شملت سفناً إيرانية تتحرك نحو الموانئ الإيرانية الجنوبية عند مضيق هرمز، وخاصة في جزيرة «خرج» حيث شنت الطائرات الحربية العراقية أعنف الغارات بالصواريخ الموجهة على ميناء التصدير النفطي هناك، وحولته إلى ركام.
ولم يكن في إمكان طهران أن ترد مباشرة على الغارات العراقية المتلاحقة، فلجأت إلى استهداف سفن كويتية كانت تنقل النفط العراقي، واستخدمت إيران في ذلك ألغاماً تقليدية في المياه القريبة من الكويت وفي خليج عُمان. وفي تلك الفترة، استهدفت إيران سفينة سعودية، ما دفع الرياض إلى إسقاط طائرتين إيرانيتين من طراز «فانتوم 4» بأسلحة طائرتين مقاتلتين سعوديتين من طراز «فانتوم 5»، لكن لغماً إيرانياً انفجر يوم 18 مايو (أيار) 1988 في سفينة الصواريخ الأميركية «صمويل روبرتس» خلال إبحارها في الخليج، دفع واشنطن إلى تنفيذ عملية واسعة تحت تسمية «فرس النبي» دمرت خلالها وأغرقت سفينة «سهناد» الإيرانية الضخمة لنقل النفط.
ولم تستطع إيران تنفيذ تهديداتها بإغلاق مضيق هرمز خلال حرب الناقلات، لأنها نفسها كانت تعتمد على الممرات البحرية لتصدير النفط. لكن الحال تغير اليوم، بعد أن تم منع إيران من تصدير النفط، وليس أمامها إلا شعار «عليّ وعلى أعدائي»!
في الحرب العراقية - الإيرانية، لجأت الكويت إلى رفع علم بريطانيا على سفنها وناقلاتها، فلم تجرؤ إيران على مهاجمتها. وحضرتُ في منتصف الثمانينات مؤتمراً صحافياً في الكويت عقده ولي العهد الكويتي الشيخ سعد العبد الله - رحمه الله - لتوضيح أسباب لجوء بلاده إلى رفع العلم البريطاني على سفنها البحرية، أكد فيه أن هذا الأمر لا يتعارض مع السيادة الكويتية، ويأتي رداً على التهديدات الإيرانية بإغراق الناقلات الكويتية التي تنقل نفط العراق إلى الأسواق العالمية.
ولتخفيف جفاف هذا المقال، أشير إلى أن جميع الصحافيين العرب والأجانب تقريباً تناوبوا توجيه الأسئلة إلى الشيخ سعد العبد الله، مع ذكر اسم كل منهم والصحيفة التي يعمل فيها. وأجاب عنها بمنتهى الصراحة، ثم التفت إلى مدير تحرير جريدة «الجمهورية» المصرية (وكان يعرفه) وقال له: «أنت الوحيد الذي لم يوجه لي سؤالاً». فأجابه: «سمو الشيخ لديّ أسئلة طبعاً، ولكني خشيت أن أقول اسمي قبل توجيهها إليكم فيضحك الجميع!»، كان اسم الأستاذ مدير تحرير جريدة «الجمهورية» هو محمد الحيوان، وهو واحد من أشهر الصحافيين المصريين في تلك السنوات. وضجت القاعة بالضحك!
السؤال الأخير؛ هل يتكرر سيناريو حرب الناقلات في مياه الخليج؟ هذا ما تريده طهران، لأن استراتيجيتها المزمنة هي أن تجري الحرب خارج حدودها، براً أو بحراً أو جواً.