إميل أمين
كاتب مصري
TT

من الرياض إلى جدة... طريق النهضة والتنوير

من الرياض العاصمة إلى جدة عروس البحر الأحمر، يكاد المراقب للشأن السعودي أن يقطع بملامح ومعالم عالمية لنهضة حقيقية، تأخذ في حسبانها الفنون التي تُعلي من شأن النفس الإنسانية، وتفتح المسارب أمام الروح الوثابة الخلاقة، الباحثة في آفاق الكون عن معاني الجمال، وآيات الإبداع، وعظمة الخالق جل شأنه في مخلوقاته.
هل النهضة والتنوير قرارات فوقية؟
يمكن القطع بأن استراتيجية المملكة 2030 في القلب منها الإنسان السعودي، وهو القضية وهو الحل أيضاً، وقد تعرّض لعقود من الإجحاف في حق مشاعره وأحاسيسه، وحان الوقت عبر دروب تلك الاستراتيجية التنويرية الفوقية، لإفساح الطريق واسعاً أمام نهضة تليق به وبالأجيال القادمة الساعية إلى معارج المجد.
مساء الجمعة القادمة سوف تشهد العاصمة السعودية الرياض حفلاً أوبرالياً هو الأول من نوعه، تقدمه أوبرا «لاسكالا» الإيطالية، والتي تعد من أشهر دور الأوبرا في العالم.
الحفل سيقوده المايسترو الشهير بيترو ميانيتي، وسيقدم خلاله ثماني مقطوعات كلاسيكية من روائع الأوبرا الإيطالية لأشهر مؤلفي الأوبرا من أمثال جواكينو روسيني، وجوزيبي فيردي، وبييترو ماسكاني.
وتكشف هذه الرحلة عن تطور الأوبرا الإيطالية العريقة خلال القرن التاسع عشر الذي يعد العصر الذهبي لهذا النوع من الفن الموسيقي.
يمكن القطع بدايةً بأن فن الأوبرا يبقى فن الإبهار، سيما إذا كانت الفرقة جيدة والديكور والملابس محترفة، وعليه فإن من يحضر مرة وينبهر، حكماً سيعود مجدداً. والشعوب على اختلاف مشاربها تتلذذ وتنبهر بهذا الفن الراقي والحضاري. ومن منا لم يستمتع بأداء الظاهرة الراحل لوتشانو بافاروتي الذي توفي قبل أكثر من عقد، حيث كان صوته يلقى الإعجاب الكبير من سامعيه من مختلف اللغات والقارات.
نعم الموسيقى هي اللغة الإنسانية التي تجمع الجنس البشري، وهذه التعددية الموسيقية الضخمة التي أتاحتها التكنولوجيا الحديثة جمعت الشعوب، ونشرت المحبة والسماحة بين الناس، وهي الجديرة بأن تقف في وجه طواغيت الإرهاب الذين قلبوا العالم إلى مكان للرعب والدمار والخوف.
عطفاً على ما تقدم فإن فن الأوبرا في حقيقة الأمر يكاد يضحى الفن الوحيد المتضمِّن والمحتوي لكل أشكال الفنون الأخرى من دراما وتمثيل، وموسيقى، وغناء وباليه، وديكور، ونحت، ورسم، وتصميم ملابس، وإكسسوار، وإضاءة.
الممثلون والراقصون والمؤدون في الأوبرا يقدمون عادةً لوحة إبداعية في تناغم وتناسق وهارموني مدهشة، وفي حالة أقرب إلى الإعجاز الفني تسلب اللبّ، وتأسر العقل.
كل هذا الزخم الإبداعي تتيحه وزارة الثقافة السعودية للجماهير ومن الشرائح المجتمعية كافة مجاناً، ومن دون أي تكلفة، وإن كان الأمر في واقع حاله يعد أعلى وأغلى استثمار، إنه استثمار في البشر عبر توفير فضاءات ثقافية على أكبر قدر من الرقيّ والجمال... هل أوبرا الرياض هي النشاط التنويري الوحيد في صيف المملكة هذا العام؟
بالقطع لا، ذلك أنه بدءاً من الخامس من شوال إلى الخامس عشر من ذي القعدة تشهد جدة موسماً غنياً بكل ما يُثري النفس الإنسانية ويروّح عنها، ويطلقها من أسر الماديات ورباطات العولمة التي سلّعت الإنسان، عبر أجواء غير مسبوقة، ومن خلال تجربة استثنائية لم تشهدها، من خلال أجندة حافلة بمختلف أنواع الفعاليات الترفيهية والرياضية، والثقافية والفنية، الموجّهة إلى مختلف الفئات العمرية، وبما يروق لكل الأذواق، وما يلبي التطلعات كافة.
الجميل إلى حد الإبداع أن كل ذلك يتم من خلال أيادٍ وكوادر وطنية، كأن القائمين على شأن الثقافة والتنوير في المملكة يتمثلون القول الشهير «الحضارة لا تقوم بالاستعارة»، بل تقوم بالفعل بأيدي أبناء الوطن.
فيما الأكثر فاعلية هو أن أسعار الاحتفالات والأنشطة المختلفة مدعومة من الدولة، ما يجعل مساهمة الفرد مجرد مشاركة يشعر من خلالها بأهمية العمل والحرص على تشجيعه.
كثيراً ما تعرض التراث السعودي لصنوف وألوان من النسيان، لا سيما أن عقوداً طوالاً مرّت، تم النظر فيها إلى الفنون على أساس أنها أنواع من الفسق الذي يصل إلى حد الكفر، وفي راديكالية غابت عنها وسطية الإسلام وسماحته، وتقدير المشرع لحاجة الناس إلى ما يصلح شؤون دنياهم، مما يخفّف عن القلوب من آلام الدهر الحاضر.
مهرجان جدة يعيد اكتشاف التراث السعودي فناً وثقافةً، لا سيما من خلال الورش والمعارض الإبداعية للحرف التقليدية، والفنون الحجازية، في مسح للغبار الذي لحق بتاريخ عريق للمملكة ولسكانها عبر آلاف السنين.
يدرك القائمون على مهرجان جدة أن الموسيقى هي البلسم الذي يروي الروح وتطرب به النفس ويبهج القلب، ولهذا سيكون ختام موسم جدة عبر مهرجان موسيقي تشارك فيه مجموعة من النجوم العالميين، الذين أسعدوا شعوب العالم بموسيقاهم ومقطوعاتهم المختلفة، وحان الآن وقت وحظ مواطني المملكة والمقيمين على ترابها للتمتع بالرقيّ الإنساني والوجداني.
ماذا يعني وجود أشهر أوركسترا إيطالي في الرياض، ناهيك عن أنشطة مهرجان جدة؟
باختصار غير مخلٍّ، نحن أمام حالة حوار حضاري يرعاها القائمون على الثقافة في المملكة الصاعدة في دروب التنوير لتستعيد المجد التليد لحضارة سادت طويلاً بعطاءاتها وانفتاحها على الآخر، من دون خجل أو وجل، وبلا دونية أو صغر نفس، ما يعزز من مكانة المملكة حضارياً وحوارياً في الحال والاستقبال.