علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

من اتهام بالغفلة إلى اتهام بالخيانة العظمى

يقول سيد قطب في أول مقاله السفيه والمسفّ «الضمير الأدبي في مصر: شبان وشيوخ» الذي كان رداً على بعض ما جاء في مقال طه حسين «كما أنت... أيها الصديق»: «في خلال سنوات طويلة لم أستجب لتلك الأصوات التي كانت تجاهر تارة وتخافت تارة عن بدء المعركة بين من يسمونهم الشباب، ومن يسمونهم الشيوخ في عالم الأدب والفكر. لم أستجب لهذه الأصوات، لأنني لم أكن أفهم هذا التوقيت الزمني في الأدب والفن. لم يكن للشيوخ في نظري أدب، وللشبان وحدهم أدب. وإذا انتفى هذا المعنى، فلن يبقى وراءه إلا أن المسألة مسألة أشخاص. والأشخاص في عالم الفكر إن هم إلا وسائل وأدوات!
ولكن هذه السنوات العشر الأخيرة - وعلى وجه التحديد سنوات الحرب الأخيرة - قد بدلت الموقف تبديلاً. لم تعد المسألة مسألة أشخاص لا تقدم ولا تؤخر، بل انتهت إلى أن تكون مسألة مبادئ واتجاهات، بل مسألة ذمم وضمائر، تتناول جوهر القضايا الوطنية والاجتماعية والإنسانية كذلك.
افترقت طريق الشيوخ وطريق الشبان افتراقاً لا علاقة له بالأشخاص - على الأقل في نظر الشبان - إنما علاقته كلها بالنظرة إلى الضمير الأدبي، وإلى الوطن والمجتمع والإنسانية؛ فهو خلاف على الصميم، والأشخاص فيه مجرد شخوص ورموز.
ومع هذا كله، فقد كنت أستبقي المعركة - على علمي بأنها آتية لا ريب فها - أستبقيها توقيراً لأساتذة الجيل - مهما كان من انحرافهم الواضح في السنوات الأخيرة - واستبقاء المودَّة التي تربط الجيلين أو التي كان يجب أن تربطهما بتعبير أصح، لولا أن الأستاذ الكبير الدكتور طه حسين بك قد تعجل المعركة في صفحات مجلة (الهلال)...».
هل صحيح أنه (كما قال) لم يستجب لتلك الأصوات التي كانت تجاهر تارة، وتخافت تارة عن بدء المعركة بين شباب الأدب وشيوخه، وأن طه حسين هو الذي تعجّل بَدْأها؟ أقول إجابة عن هذا السؤال: إنه قد كذب في قوله هذا؛ فقبل أن ينشر ذلك المقال السفيه والمسّف في مجلة «العالم العربي» بتاريخ 10/ 4/ 1947، كان قد كتب ضمن سلسلة مقالات هاجم فيها عبد الله القصيمي وكتابه «هذه الأغلال» مقالاً في مجلة «الرسالة» عنوانه «على هامش النقد... غفلة النقد في مصر» بتاريخ 16/ 12/ 1946، قال فيه: «إن في مصر غفلة نقد منشؤها أن كثيراً من الكبار الذين كانوا يتولون حركة النقد لم يعودوا يقرأون، وإذا قرأوا لم يقرأوا للشباب، استصغاراً منهم لما ينشئ أولئك الشباب.
وهم أحرار في هذا، ولا يستطيع أحد أن يجبرهم على قراءة معينة، فهم في دور الكهولة والشيخوخة كثيرو المتاعب، ولأنفسهم عليهم حق، ولهم أن يقضوا أوقاتهم في لذائذهم الحسية والفكرية حسبما يشتهون، فإن من حقهم أن ينالوا الراحة والحرية بعد الجهاد الطويل. ولكن عليهم في مقابل الراحة والحرية ألاّ يتعرضوا للنقد، فيصدروا فيه الأحكام إلا بعد تتبع لحركة الفكر في كل كتاب يصدر في الفن الذي يريدون نقده، وإصدار حكم عليه، فذلك هو واجب الضمير الأدبي في أضيق الحدود. إن القراء يثقون بهم إلى حد، وهذه الثقة تدعو إلى تحري الدقة، فلا يفتون بغير علم، أو بعلم ناقص، فتلك تبعة ثقيلة على الرقاب. وأنا واثق أن بعض الذين كتبوا عن كتاب (الأغلال)، ما كانوا ليكتبوا لو أنهم، أولاً، قرأوا الكتاب كله، ولم يكتفوا بتصفح بعض فصوله، ثم لو أنهم، ثانياً، كانوا قد قرأوا كتاب الأستاذ عبد المنعم خلاف، مهما تكن حيلة الرجل بارعة ومهارته في الدعاية قوية».
سيد قطب في هذا المقال، وفي مقالين سابقين لهذا المقال، كان قد اتهم عبد الله القصيمي أنه سرق كتابه «هذه الأغلال» من كتاب عبد المنعم خلاّف «أومن بالإنسان».
ولأنني أعرف أن الإسلاميين والدينيين عموماً سيعتذرون لسيد قطب (وما أضخم اعتذارياتهم عن أخطائه وخطاياه التي سال ولا يزال يسيل فيها حبر كثيف وغث وسمج) بالنسيان، أؤكد اتهامي له بالكذب استناداً إلى القرائن التالية: الفارق الزمني بين مقاله السابق ومقاله اللاحق لا يتجاوز الثلاثة أشهر وخمسة وعشرين يوماً، وهذه المدة من الوقت لا تسمح للكاتب بأن يدعي أنه قد نسي ما كان قد كتبه. النيل من شيوخ الأدب في المقال السابق كان موضوعاً جزئياً، ولم يكن هو الموضوع الرئيسي، وفي المقال اللاحق كان النيل من شيوخ الأدب هو الموضوع الرئيسي والتفصيلي فيه. ما قاله في المقال السابق: «لهم أن يقضوا أوقاتهم في لذائذهم الحسية...» عبّر عنه في مقاله اللاحق وصاغه بسوقية وبذاءة متدنية. مطالبته في المقال السابق شيوخ الأدب بأن يعتزلوا النقد، لأنهم حسب ما ادعى يفتقرون إلى الضمير الأدبي، هذه الجملة (وأعني بها «الضمير الأدبي») صارت هي عنوان المقال اللاحق ولبّه. في المقال السابق، أرجع ثناء بعض كبار كتاب مصر على كتاب «هذه الأغلال» وعلى مؤلفه والضجة التي أثاروها حول هذا الكتاب إلى أنهم «مخدوعون» بما روّجه مؤلفه من أنه يتعرض لخطر عظيم في بلاده، واعتبر هذا الأمر «فضيحة أدبية لمصر، وقد يؤخذ دليلاً على غفلة النقد فيها إلى حد مخجل»!
هذا الاتهام، اتهام شيوخ الأدب في مصر في المقال السابق بالغفلة، بسبب ثناء بعض كبار الكتاب فيها على ذلك الكتاب، الذين لم يكن طه حسين من بينهم، تطور إلى اتهام أفدح وأشنع في المقال اللاحق، إذ اتهمهم بخيانة الوطن والمجتمع والإنسانية والضمير الأدبي كله!! ليس عن غفلة هذه المرة، وإنما فعلوا ذلك (كما قال) لأن الذهب كان يسيل إلى جيوبهم سيلاً، ولأنهم آثروا لذّاتهم الخاصة ومتعهم المؤقتة على مصائر الأوطان، ومصالح الأقوام، ولأنهم تخلوا عن الواجب الوطني والقومي في أحرج الظروف. لهذا انصرفوا (كما افترى) إلى الدعاية لقضية المستعمرين في الإذاعة والصحف والكتب!!!
القرينة الأخيرة أن بعض ما جاء في بعض مقال طه حسين (وإن لم يصرح باسم سيد قطب ترفقاً ورأفة به) كان رداً على اتهاماته لشيوخ الأدب التي مررننا بها في مقاله السابق، وعادة يتنبه الكاتب حتى لو كان مكثراً في مقالاته إلى أن ما قاله هو المقصود بالمناقشة أو الرد في مقال كاتب آخر، حتى لو لم يومئ هذا الكاتب إليه من بعيد، ولم ينص على شيء يسير مما قاله حرفياً، فكيف لم يتنبه سيد إلى هذا وعهده بكتابة مقاله السابق عهد قريب، وموضوعه (وهو مواصلة هجومه على عبد الله القصيمي وعلى كتابه) موضوع مفصلي في حياته الأدبية والنقدية، فثناء العقاد على كتاب «الأغلال»، وعلى مؤلفه (والعقاد من بين المثنين على الكُتّاب الذين يُصنفون عند الأدباء الشباب في أربعينات القرن الماضي ضمن شيوخ الأدب) هو الذي دفعه إلى بدء المعركة مع شيوخ الأدب في ذلك المقال، وليس إلى بدئها معهم كما ادعى (في مقاله «معركة الضمير الأدبي: شبان وشيوخ»)؛ فهو قد بدأها معهم في مقاله «غفلة النقد الأدبي في مصر» مع أنه كان قبل ذينك المقالين (على عنف وحدّة في قلمه) يحرص على مراضاتهم وموادتهم ومجاملتهم إلى حد المحاباة في كتاباته عن مؤلفاتهم الجديدة لغاية في نفسه. وقد لا يكون القارئ بحاجة إلى أن أذكّره بأنه قبل ذينك المقالين كان يصلي في محراب دواوين العقاد الشعرية وكتبه الأدبية والنقدية وكتبه الإسلامية الأولى حين يكتب عنها.
عوضاً عن أن يرتدي سيد قطب في أول مقاله «الضمير الأدبي في مصر» قناع التروّي والتؤدة والأناة، ويتكلف الوقار والرصانة والإنصاف، ويتظاهر بالموضوعية والمنهجية والعلمية، ألم يكن من الأجدر به أن يذكر في أول مقال «الضمير الأدبي في مصر» أنه كان قد بدأ المعركة مع شيوخ الأدب في مقاله «غفلة النقد الأدبي في مصر»، ويصل ما قاله في مقاله اللاحق بما قاله في مقاله السابق، حتى لا يُرمى بالكذب المفضوح؟!
إني في هذا السؤال أسأل وأتساءل، وفي الوقت نفسه أستعجب.
وبعكس ما ادعاه سيد قطب، فإن المسألة في مقاله السفيه والمسف، مسألة أشخاص تقدم عنده وتؤخر، وليست مسألة مبادئ واتجاهات وذمم وضمائر ووطنية وقومية وإنسانية. ومسألة الأشخاص هذه هي التي قال عنها طه حسين في مقاله: «كما أنت... أيها الصديق»: «أليس من الممكن أن يكون الشيء الذي نفسه الشباب على الشيوخ ليس هو الأدب أو العلم أو الفن. وإنما هو ما قد ينتجه الأدب والعلم والفن من إقبال الناس على الشيوخ أكثر مما يقبلون على الشباب. وإذن فالأمر ينتهي إلى ازدحام حول أغراض الحياة الباطلة وأغراضها المادية الزهيدة، حول الشهرة وبعد الصيت، من مال قليل أو كثير». وهنا مسَّ طه حسين العصب الحساس عند سيد قطب الغيور والحسود والنهم، وعند بعض زملائه الأدباء الشبان الحسدة والحساد. هذا العصب الحساس هو المال. آه من المال... آه من المال (قل أو كثر)، فهو كان أحد أسباب كتابة سيد قطب مقاله السفيه والمسف عن شيوخ الأدب، واتهامه لهم في متنه بالخيانة العظمى. وللحديث بقية.