د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

عندما يريد الجمهور نهاية أخرى!

عندما كان يجري عرض حلقات المسلسل التلفزيوني «لعبة العروش أو Game of Thrones» تجاوز عدد مشاهديه 43 مليون مشاهد على مستوى العالم أجمع، في سابقة لم يشهدها عمل فني آخر. ولم تكن هذه هي السابقة الوحيدة، وإنما تبعتها سابقة أخرى، وهي أن أكثر من مليون و400 ألف مشاهد عبّروا عن عدم سعادتهم بالنهاية التي وصلت إليها أحداث المسلسل، وشعورهم بالإحباط لما استقرّ عليه الأمر بعد أكثر من 80 ساعة من العرض المتواصل؛ وربما لأكثر ما أنتجه التلفزيون في العالم من إثارة وتشويق، يرفع ضغط الدم، ويقطع الأنفاس من كثرة المعارك والمواجهات والحوارات الحارة، حتى لو كانت بصوت منخفض، ومن وقت لآخر مشاهد جنسية تكمل الصورة العامة للحال الإنسانية بحلوها ومرها، شجاعتها وجبنها، وطنيتها وخيانتها، جمالها وقبحها. طالب هؤلاء جميعاً بضرورة إعادة إنتاج الحلقة الأخيرة مرة أخرى ووضع الأمور في نصابها، ربما لأنهم لا يريدون للمسلسل أن يختفي، وأن يبقي في القصة عمر آخر يشفي غليل المدمنين على هذه النوعية، التي استقرت نهاياتها على قواعد مرضية.
وإذا كان هناك في وقت ما محللون جعلوا من الروايات والقصص مرجعية سياسية، وأحياناً من القطع الفنية، تماثيل كانت أو لوحات، حتى المسرحيات والأفلام السينمائية؛ فإن «لعبة العروش» خرجت عن كونها مجرد مسلسل تلفزيوني مثير حاز الكثير من الجوائز – «إيمي» في مقدمتها – وإنما لكي تكون معملاً للدراسات السياسية أحياناً، والمخابراتية أحياناً أخرى، وخطط الحرب والسلام أحياناً ثالثة، والمعارك وأسلحتها من الخنجر إلى التنين الطائر أحياناً رابعة، أما المؤامرات - وحدث ولا حرج - أحياناً خامسة.
المتخصصون والكُتاب في السياسة جعلوا من الممالك السبع لإقليم «ويستروس» معملاً كبيراً للدراسات السياسية، التي يتسابق فيها الجميع إلى «العرش الحديدي» مستخدمين أدوات عصر قديم لتحقيق أهداف وأغراض كل العصور. أما الجمهور العادي فلم تكن لديه في المسلسل خيبة أمل إلا لأن نهايته لم تعط للبطل الطيب والشجاع جون سنو العرش الذي بات يستحقه بما سبقه من أعمال شجاعة، وتضحيات جمّة، وما كشفت عنه الأيام من استحقاق وراثي؛ ولا أعطت للبطلة الشجاعة أيضاً دينيري تيجاريان ومحررة العبيد والمرأة الحديدية «الشاهقة» الجمال، الفرصة لكي تتزوج من الحبيب الشجاع، ويجلسا سوياً على العرش العظيم كما يليق بالمسلسلات التلفزيونية التي تنتهي بالأحداث السعيدة، وزواج البطل مع البطلة. على العكس من ذلك فقد قتل البطل البطلة، أو ذبحها على وجه الدقة، بعد أن تحولت زعيمة التحرير إلى قيادة فاشية تقتل الناس وتحرق المدن ولا تريد أحداً غيرها على العرش، عدواً كان أم حبيباً. انتصرت السلطة على الحب.
في مقال نشر في «النيويوركر» لإيمي ديفيدسون سوركين» في 21 مايو (أيار) الحالي، بعنوان «ما الذي يعلمنا (لعبة العروش) عن السياسة الانتخابية؟»، أن الخروج من اللعبة جاء من خلال مجلس، ربما للحكماء، كان عليه «التصويت» لاختيار من سوف يجلس على العرش الحديدي في النهاية، بينما هم جالسون على «هاوية التنين» في العاصمة الموحدة «كينغز لاندنغ». وجاء الاختيار على بران ستارك أو بران المكسور الذي شلّت أقدامه منذ الحلقة الأولى في السلسلة الأولى بعنوان «الشتاء قادم» من السلاسل الثماني، عندما دفع من أعلى ليسقط على الأرض ويمضي وقته متحركاً على عجلات أو محمولاً بشكل أو بآخر. في نظر الجمهور فإن الشلل حلّ مكان الصحة، والقعود مكان الحركة، والضعف مكان العنفوان، والعجز مكان الفحولة. ولكن كاتبة المقال رأت في الأمر حكمة أخرى، وهي أنها التعبير البدائي عن الانتخابات، فلم تكن القوة هي التي انتصرت، وإنما حكمة الكبار، وقبل وبعد كل شيء فإن «بران» الذي كان الضحية الأولى لـ«لعبة العروش»، فإنه رغم كل ما عاناه طوال دورات العرض، فإنه هو الذي وصل إلى العرش في النهاية، وقبل وبعد كل شيء، فإنه هو الذي باتت له علاقات ميتافيزيقية تتيح له رؤية المستقبل، ولديه عيون الغربان التي تجعله يطلّ من أعلى على الحقائق، ويستشف الخير والشر، والحقيقة من الخيال.
هل يعد ذلك فضيلة انتخابية أم لا؟ فتلك قضية أخرى، ولا يمكن الحكم على المسلسل بأنه يمثل مداخلة في الحوار العالمي الجاري حالياً عن الليبرالية والديمقراطية، وعما إذا كانا قد وصلا إلى النهاية، كما حدث للاشتراكية قبلهما؛ وإنما يمكن الخروج منه بمداخلات خرجت من تاريخ خيالي، تخص أسئلة صعبة ما زالت تؤرق الشعوب والنخب في عالمنا المعاصر، مثل أصل السلطة ومصدر الشرعية. أفلاطون علّمنا أن «القانون» هو مصدر السلطة والشرعية، لأنه من ناحية يشكل الفارق ما بين الحضارة والوحشية؛ وفيما يبدو فإن «ويستروس» كانت حالة وسطاً بين الحالتين، ومن ثم فإن وجود المجلس للاختيار بين المتنافسين يمثل انتقالاً من الحالة الثانية إلى الأولى. المؤلفة «سوركين» رأت أن اختيار المجلس كان يمكن أن يكون مفهوماً، وربما أكثر إثارة للجمهور الذي خاب أمله، إذا كان بران ستارك قام بدور «الراوي» منذ البداية حيث يعطيه ذلك كثيراً من المصداقية إزاء كل الأطراف التي كانت لها روايتها الخاصة والعامة؛ خاصة أن المسلسل كله يعطي أهمية بالغة لدور الرواية Narrative أو «الإعلام» أو الدعاية في تبرير مذابح وأعراس. هناك مفاجآت ميلودرامية حول البنوة غير الشرعية، واكتشاف الآباء والأمهات بعد زمن تعقدت فيه الأمور، وما يجري بين البشر من منافسات وأحقاد، ولكن القضايا الكبرى تظل مطروحة طوال الوقت.
المسلسل من أوله إلى آخره يدور على 3 مستويات؛ داخل الوحدة السياسية التي فيها قيادة وشعب ورقعة جغرافية حيث تتنافس الأصول والأفراد؛ وما بين الوحدات السبع، للوصول إلى العرش الحديدي، وبين هؤلاء جميعاً وقوى الطبيعة (الشتاء الذي سوف يأتي، وهو يماثل الاحتباس الحراري في عصرنا هذا)، وقوى التاريخ أو الموتى الذين يستيقظون للقتال والقتل؛ وهؤلاء ربما يكونون استمراراً للموجة الفنية الجارية التي توظف الموتى (الزمبي) في أعمال درامية؛ أو أنهم جزء من قضايا أكبر لها علاقة بما مضى من تاريخ وما هو آتٍ من مستقبل. التكنولوجيا تلعب دوراً أساسياً في هذه التفاعلات المتعددة الأبعاد، وقد لفت نظر «سوركين» ذلك الدور الذي تم إعطاؤه للتنين الطائر المطلق للنيران، الذي لعب مرة دور المنقذ للبطلة «دينيري تيجاريان»، ومرة دوراً في تشكيل توازن القوى، الذي لم يكن في النهاية حاسماً كما كان متصوراً في زمن المسلسل، حتى في الزمن الحالي الذي جرت فيه المبالغة في دور الجو في حسم المعارك بحيث تقود «ضربات جراحية» أو تزيل الخصم من الوجود بالتدمير الشامل.
معركة ويستروس حسمت، عندما تمكنت «آريا ستارك» من قتل «ملك الليل» بالخنجر، الذي كان تاريخياً ربما أول أسلحة القتل. المسلسل فوق أنه يستحق المشاهدة، فإن فيه من الحكمة ما هو أكثر.