د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

«متلازمة الثرثرة»!

أضافت شركة «أوبر» لخدمات سيارات الأجرة خياراً إلى تطبيقها، يوفر للركاب «ميزة» تجنب الحديث مع السائقين. كل ما على الراكب أن يختار «أُفَضِّل الهدوء» عند طلب سيارة أجرة، ليلوذ بصمت مطبق، بعيداً عن أحاديث بعض السائقين المزعجة أو المتطفلة.
ورغم انقسام البعض بين مؤيد ومعارض لهذا القرار، فإنني أعتبره اختياراً شخصياً يجب أن يُحتَرَم. مثل ذلك الملصق الذي توزعه خطوط الطيران: «أرجو عدم إيقاظي لوجبة الغداء». فليس من حق أحد أن يختار أن يزعجنا بموضوعات لا تزيدنا سوى مزيد من الإزعاج والهم؛ خصوصاً إذا اختار بعض السائقين العرب أكثر موضوعين خلافيين، وهما الدين والسياسة. وما أكثر من يعشقهما في أمتنا.
المشكلة أن البعض لا ينتبه لأبجديات الحوار، وهي ملاحظة مدى رغبة المستمع في التحدث من عدمه، وذلك من إيماءات الوجه، ومدى التفاعل «الصادق» مع الأسئلة. والبعض يعتقد أنه إذا صادف من يشبه جنسه أو لونه أو دينه أو طائفته، فقد صار مستعداً للخوض معه في أي موضوع. وهو أمر غير صحيح. ولذا ذكرت في كتابي «أنصت يحبك الناس» قصة لجوء شركات سيارات الأجرة في لندن قبل سنوات عدة، إلى تدريب السائقين على مهارة الاستماع إلى الركاب، بدلاً من الثرثرة. ومن يستقل «تاكسي لندن» مقارنة بكل سيارات الأجرة في العالم، فلا شك أنه يلمس مدى رقي السائقين وتحفظهم من الدخول في نقاشات، ربما لأسباب مرتبطة بالثقافة الإنجليزية التي تحترم الآخرين، ولا تخوض معهم في نقاشات قبل أن يرى أحدهم بوادر استجابة أو اهتمام. عكس ما يحدث في عالمنا. فما إن يسمع أحدهم أناساً يتحدثون العربية في عاصمة أجنبية، يظن أنهم صاروا مستعدين لأن يمضوا معه سائر اليوم في أحاديث لا نهاية لها.
الدخول في نقاش مع الآخرين يحتاج إلى شيء من الذوق، مثل من يستأذن قبل الولوج إلى منزل أحد أو مكتبه. شخصياً عانيت كثيراً من مشكلة الثقافة الشفهية السائدة عندنا، فأفضت بي رحلة البحث إلى تأليف ثلاثة كتب في فنون الإنصات، التي وجدت فيها ضالتنا بوصفنا عرباً، إذ يتربى كثير منا منذ نعومة أظافره على التحدث في كل شيء، وينسى أو يتناسى فضيلة الإنصات. فمن لا يصغي جيداً تكثر أخطاؤه، ويُساء فهمه، ويزول بعض من وقاره، ففي الصمت وقار لا يدركه سوى مَن ينعم بهذه الفضيلة المنسية.
ومن المفارقات، أننا نمضي سنوات في تعليم الإنسان المقدرة على التحدث، وإذا ما تحدث تمنينا لو أنه سكت! التحدث مع الآخرين صحي، ومثرٍ، وملهم، ومسلٍّ أحياناً، ما عدا أولئك الذين يقحمونك في حوارات عقيمة لا تنسجم مع مزاجك، وكأنهم مصابون بداء أو «متلازمة الثرثرة». ولذا قالت العرب: «لا تُطعِم طعامك من لا يشتهيه».