مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».
TT

حكايا الماضي: يوم الحصى تمر!

اليوم تستمر «حكايا التاريخ» ونتحدث عن لوحة أخرى من لوحات التراث والتاريخ العربي، شرطنا بذلك أن يكون للحديث نافذة تفضي لباحة الماضي، تاريخاً وخيالاً، لتفرّسه من جديد اليوم.
ثمة مثل عامي عند أهل الجزيرة العربية، وهو قولهم:
«يوم كل شيء يحكي».
أورد هذا المثل العلامة السعودي الشيخ محمد العبودي، في كتابه الحافل عن الأمثال العامية، ثم علّق الشيخ محمد بالقول:
«أي عندما كان كل شيء من الحيوانات يتكلم».
ويتابع: «ذلك أن من خرافاتهم أن كل الحيوانات والطيور في قديم الزمان، كانت تتكلم كما يتكلم الإنسان. إلا أنها استعجمت بعد ذلك، وبقي الإنسان وحده القادر على الكلام».
ويخبرنا العلامة العبودي بأن هذا الأمر هو زعم قديم للعرب، وليس حادثاً مع العوام. قال الجاحظ: «كانت العرب تقول: كان ذلك إذ كل شيء ينطق».
وتعزيزاً لذلك نجد هذا النص الذي أورده اللغوي والأديب الثعالبي، عن القاضي أبي الحسن عبد العزيز: «أما قولهم: أيام كانت الحجارة رطبة، وإذ كل شيء ينطق، فهما من الأمور التي يتداولها جهلة الأمم، وهو الظاهر بين أغفال العرب والعامة. هذا وأمية بن أبي الصلت - وهو من شعراء الجاهلية المعاصرين لفجر النبوة المحمدية - قال:
وإذ همْ لا لبوسَ لهم عراة وإذ صمّ السلام لهم رطاب
بآية قام ينطق كل شيء وخان أمانة الذئب الغراب»

أتذكر شخصياً أنني كنت أستمع لـ«سواليف» أي حكايات رجل من بلدة واقعة بعالية نجد، غرب الرياض، ثم سأله شخص عن زمن وقوع القصة، فردّ عليه: «سنة حنّا قطين على رغل... يوم الحصى تمر».
أي وقع ذلك بالعام الذي كنّا به بوقت الصيف الشديد بقرب مورد مياه اسمه «رغل»، وذلك بزمن قديم جداً حين كان الحصى تمراً. كناية عن عدم واقعية القصة.
يرجعنا ذلك كله للكسل البحثي بالجزيرة العربية - نستثنى أسماء قليلة مثل د. سعد الصويان، عالم الأنثروبولوجيا السعودي، بمؤلفاته الخاصة أو الموسوعات التي أشرف عليها - أقول يرجعنا ذلك للكسل البحثي والاستسهال في تقليب أوراق الهوية وتفحّص ملامح الثقافة، في الأمثال والحكايات والعادات، لأن في ذلك أولاً، خدمة «ضرورية» لتجذير الهوية الوطنية بعيداً في تربة الروح، وثانياً فيه إثراء وحيوية في تكثير المنابع التي يستقي منها المبدعون اليوم، بكتابة الروايات وتفجير الدراما، وتمكين الرسامين والموسيقيين وغيرهم من موارد ثرّة فوّارة لا تنقطع، منذ كان: يوم كل شيء يحكي. وكان الحصى تمر. وكانت الصخور رطبة. بآية قام ينطق كل شيء... إلى اليوم.