جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

رحيل صاحب «خرائط الروح»

لم يكن مُعلّماً، وإن علّمني وغيري فن نظم الكلم في عقود، وتطريز الخيال بحروف من خرز ملون. كان أحمد إبراهيم الفقيه مَعْلماً أدبياً، من معالم السرد العربي الحديث، وساحراً متميزاً، قاده فنّه ليس فقط إلى سحر القلوب وإغوائها، بل إعادة تشكيلها من جديد، لتستحيل جناناً من زهر وحنّة.
في عام 1965 صدرت مجموعته القصصية الأولى «البحر لا ماء فيه» وكنتُ صبياً، أسيح في شوارع مدينة صغيرة، بقلب مفطور على الحب، ولم تعلق به بعد شوائب الناس والدنيا، أروم في أحلامي طيراناً بلا أجنحة، في سماوات قصيّة، وكنت في ذات الوقت أحوم كفراشة، من بعيد، خشية ورهبة من دائرة ضوء وهاج، معدة لكل من يتجرأ على ولوجها محترقاً، في سبيل أن تعيد صهره وإعادة خلقه من جديد، إن اشتهى أن يكون وردة تضاف، بودّ إلى حديقة لا يدخلها إلا من بذر الله في قلبه بذور المحبة والسؤال.
كان أحمد إبراهيم الفقيه شاباً، ريفياً، فقيراً، جاء طرابلس قاصداً تعليماً لم تتحه له بلدته مزدة، على أطراف الصحراء، ليتكسب منه، ويعيل أسرته، ويفتح له أبواب دواوين الحكومة. وكانت طرابلس، وقتذاك، مدينة صغيرة الحجم، قليلة السكان، بأحلام كبيرة، وفي حاجة إلى من يسمع دقات قلبها، ويتفهم نبضاتها، ويعيد إليها قدرتها على الكلام. هل هي الصدفة أم حرصُ يَدِ القَدرِ على تحريك ما يختلط، مطبوخاً، في القُدور - الصدور؟ ربما لهذا السبب، وُجِدتْ في مدينة طرابلس صحيفة اسمها «الميدان»، صاحب امتيازها، ورئيس تحريرها، صحافي وكاتب وطني، اسمه فاضل المسعودي، رحمه الله، منح الشاب الريفي زاوية صغيرة في صحيفته، لكي يصول فيها بقلمه، ويجول بما في رأسه من أسئلة وأحلام.
الذين قرأوه يعرفون من هو أحمد إبراهيم الفقيه، ويدركون على وجه الدقة الكوكب الذي جاء منه، إلى الأرض، ليسرق بخفة وشطارة، وسحر وجمال، خيوطاً من أشعة شمس قلبها، ليحيك ويطرز قصصاً، ومقالات، وحكايات، وروايات، ومسرحيات، وليجعل من الفن معبده، ومن السرد صلاته، وطقوسه، وابتهاله الذي سيحمل اسمه، وصوته، ولون أحلام قلبه، وليظل من بعده كعنقود عنب، متدلياً بضياء حباته، في دالية الحياة.
كان أكثر كتّاب ليبيا غزارة في الإنتاج، وأذكر أني مرّة استضفته لدى إحدى زياراته إلى لندن، مع صديقي الكاتب غازي القبلاوي، للمشاركة في برنامجنا المسموع «رسالة من لندن». كان غازي يعد آلة التسجيل ولاقط الصوت، استعداداً، في حين ظللت جالساً، أراقبه. رأيت أحمد إبراهيم الفقيه، وهو يجلس قبالتي حول المكتب، يخرج ورقة وقلماً، وينهمك في الكتابة. ظننت أنه يود تسجيل فكرة خطرت بباله، تصلح موضوعا للكتابة، كي لا ينساها. فتركته في حاله، وأشعلت سيجارة، وواصلت مراقبة غازي في عمله، حتى انتهى. طلبت من أحمد الفقيه أن ينهض من كرسيه، ليحل محلي، في مواجهة لاقط الصوت. رفع رأسه نحوي من الورقة، وقال أنا جاهز. لم أصدق ما سمعت أذناي. ما كنت أظنه تدويناً لفكرة عابرة، كان مقالة كاملة، كتبها في أقل من 10 دقائق، وسجلناها مقروءة بصوته. عرفت في تلك اللحظة معنى مصطلح كاتب محترف. وأدركت أن ما قام به الفقيه كان، بالنسبة له، مجرد روتين مهني عادي، لا شك أنه قام به مرّات كثيرة في السابق.
حين انتهى من كتابة روايته الطويلة «خرائط الروح»، اقتنيتها كاملة، 12 جزءاً، وقرأتها، واحداً تلو الآخر، وحين انتهيت منها، هاتفته مهنئاً على إبداعه، وأذكر أني قلت له مازحاً كنت أفضل لو أسميتها «خرائب الروح»، فضحك بصوت عالٍ، ووافقني.
كانت لندن مدينته المفضلة، بعد طرابلس والقاهرة. وكان حريصاً كلما زارها على الاتصال بي لكي نلتقي. وكانت لقاءاتنا كثيرة، لا تخلو من النميمة السياسية، وأحاديث الذكريات، خاصة من جانبه. وكان، دائماً، في حالة كتابة. كان يكتب مقالات لصحف عربية كثيرة في القاهرة، وفي طرابلس، وفي لندن، وكان يفاجئني كلما التقينا، بانتهائه من كتابة رواية جديدة. وكنتُ، وهذا اعتراف، أغبطه على نشاطه الإبداعي، محاولاً قدر جهدي ألا أتيح فسحة في داخلي، تُمكن غيرتي من أن تطل برأسها، وتظهر خارجاً، متبدية في عينيَّ، وفي ملامح وجهي.
رحم الله أحمد إبراهيم الفقيه، الذي رحل عن دنيانا هذه الأيام، بعد أن دلنا، ذات يوم، على «الرجل الذي لم ير في حياته نهراً» لنكتشف، بوجع، أنفسنا.