مها عقيل
TT

الإعلام والثقافة والقوة الناعمة

شهدت المملكة العربية السعودية خلال فترة قصيرة نقلة نوعية وحراكاً على الصعيدين الثقافي والإعلامي، الذي يمكن أن نضعه في إطار الدبلوماسية الناعمة لها، ولكونها قلب العالم الإسلامي ولمكانتها الدولية فكان لهذا الحراك تأثير وأثر تردد صداه عبر أرجاء المعمورة.
فقبل أسابيع قليلة، ومنذ أن أطلقت وزارة الثقافة الاستراتيجية الوطنية للثقافة، تشكلت حالة من الشغف والتطلع لتنفيذها، فهي استراتيجية شاملة وافية يسيل لها لعاب ليس المثقفين والأدباء والفنانين والمبدعين فحسب، بل كذلك عموم المجتمع بجميع فئاته وشرائحه الذين يرغبون في حضور الفعاليات ويزورون المنشآت ويستفيدون من المبادرات.
اعتمدت رؤية الوزارة الجديدة، التي أُنشئت منفصلة عن وزارة الإعلام قبل عام تقريباً، على ثلاثة أهداف رئيسية، وهي تعزيز حضور الثقافة في المجتمع، لتصبح نمط حياة، وتطوير المواقع الثقافية، واستثمارها كمحرك للنمو الاقتصادي الوطني، وخلق فرص للتبادل الثقافي الدولي. كما حددت الرؤية الجديدة للوزارة 16 قطاعاً، تغطي مجموعة متنوعة من الجوانب الثقافية تشمل العمارة والتصميم الداخلي والكتب والتراث والأزياء والمهرجانات والأفلام والفنون المرئية والأدائية والبصرية والمأكولات والمكتبات والمتاحف والموسيقى والشعر وغيرها. وقامت الوزارة بالإعلان عن أول حزمة من المبادرات، كان من بينها مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، وصندوق نمو الثقافة، ومهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، وبينالي الدرعية، وفرقة وطنية للمسرح وأخرى للموسيقى، إضافة إلى بيوت للثقافة وأكاديميات للفنون، ومتاحف متخصصة، ومهرجانات ثقافية، وبرنامج ثقافة الطفل، وتوثيق التراث الشفهي وغير المادي، وإقامة معرض سنوي للفن المعاصر، وأسابيع الأزياء، ومهرجان الطهي الوطني، والفن في الأماكن العامة، ومدينة الثقافة السعودية.
وفي الحقيقة، لم تترك الاستراتيجية قطاعاً أو مجالاً ثقافياً إلا وتطرقت إليه، وهي بذلك تسعى إلى تعزيز الهُوية السعودية والمحافظة عليها لتؤدي إلى نهوض الثقافة لتكون قوة ناعمة وتسجيل حضور للمملكة عربياً ودولياً، باعتبار ذلك عنصراً من عناصر «رؤية 2030». فبالمحافظة على تراثنا المعماري وأزيائنا ومأكولاتنا التقليدية وفنوننا الموسيقية وغيرها وتطويرها ننقل صورة حضارية عنا تعيد تشكيل الانطباع السائد الذي ترسخ بسبب تقاعسنا عن إظهار المعالم الثقافية لنا عبر التاريخ.
ومع إطلاق المبادرات، وجد المبدع المساحة والمنصة والدعم الذي يحتاج إليه ليتمكن من صناعة وتطوير وتسويق المنتج الفني والأدبي الذي يعبر عن ثقافة المملكة بالمستوى والفكر الذي يليق بها وبمكانتها محلياً ودولياً، وخصوصاً أنه خلال الفترة القصيرة الماضية تم تهيئة الأجواء والبيئة الملائمة التي تسمح باستقبال وعرض الإبداعات والفعاليات المختلفة وازدهارها عبر وضع الأنظمة المناسبة. فمثلاً بدلاً من أن يلجأ المخرج السينمائي لدور السينما والمهرجانات السينمائية في الخارج ليعرض عمله وينال استحسان الجمهور وشهادات التقدير والتكريم في الخارج دون أن يدري عنه أبناء وطنه، يستطيع الآن أن يقدم أعماله محلياً وينطلق نحو العالمية بكل ثقة مدعوماً بالإمكانات التي ستُوفَّر له في بلده.
وهناك جانب آخر للحضور السينمائي دولياً. فقد أشار تقرير نشر مؤخراً لبوابة الاقتصاد الإسلامي العالمي عن واقع الاقتصاد الإسلامي العالمي 2017 - 2018 أن الإصلاحات في مجال الترفيه في المملكة العربية السعودية تفتح آفاقاً واعدة للعرض والطلب بالنسبة للمحتوى الذي يتناول مواضيع تناسب الذوق والثقافة الإسلامية. وبحسب التقرير، فإن منتجي المحتوى في عواصم الإنتاج السينمائي في أنحاء العالم يبذلون جهودهم لتلبية الطلب في العالم العربي، وخصوصاً في الدول الخليجية، فيما ترسي السعودية أسساً متينة لتصبح فاعلاً مهماً في هذا القطاع عبر محفزات حكومية. وذكر التقرير أنه من المتوقع أن يدفع إنشاء دور سينما في السعودية المحتوى الذي يتناول مواضيع تناسب المشاهد السعودي إلى الشاشة الكبيرة، وهو ما سيعود بآثار إيجابية على الشاشة الصغيرة وعلى المحتوى المقدم إلكترونياً.
ويضيف التقرير أن الترفيه والترفيه المعلوماتي يشكلان مجال عمل كبيراً، لذلك من الطبيعي أن يستهدف المحتوى المسلمين الذين يشكلون ربع سكان العالم. كما تتزايد مطالب المسلمين بمحتوى ثقافي ولغوي محدد. ويظهر ذلك جلياً عبر الارتفاع في المحتوى العربي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسبة 40 في المائة ما بين عامي 2011 و2014K فيما انخفض المحتوى الغربي بنسبة 55 في المائة.
كما تحاول هوليوود بدورها استقطاب المشاهدين المسلمين، إذ تعمل مارفل كومكس على خلق أول بطل خارق مسلم، فيما كان الفيلم الأول الذي يُعرض في دور السينما السعودية فيلم «النمر الأسود» من إنتاج مارفل كومكس.
وأبرز التقرير وجود توجه من قبل الدول والمناطق ذات الأغلبية غير المسلمة يقضي بتقديم محتويات تتناول مواضيع ذات طابع إسلامي أو يناسب الثقافة العامة في الدول الإسلامية. فعلى سبيل المثال، قدّم المؤتمر الدولي لأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي الأخير توصية باستحداث «إعلام حلال» (أي مقبول للمسلمين) لدول أميركا اللاتينية، فيما عقدت المملكة المتحدة مهرجان الثقافة والأدب الإسلامي الأول في لندن.
وفي استجابة للمستوى المتزايد من المحتوى الذي يتم عرضه إلكترونياً، تمّ إطلاق موقعٍ موازٍ لموقع نتفليكس (Netflix) بمحتوى إسلامي مخصص للأطفال اسمه «علي هدى» (Ali Huda). ويقدّم هذا الموقع الآلاف من حلقات الكرتون والبرامج التعليمية الترفيهية باللغتين الإنجليزية والعربية.
وتعود هذه التطوّرات، بحسب التقرير، إلى أن 54 في المائة من المسلمين سيكونون دون سن الثلاثين بحلول عام 2030. مما يوفّر فرصاً هائلة لمنتجي المحتوى الذي يدخل في هذا القطاع. وقد بلغ الإنفاق الإسلامي على قطاع الإعلام والترفيه 209 مليارات دولار في عام 2017. ومن المتوقّع أن يبلغ 288 مليار دولار بحلول عام 2023. أي أن قطاع السينما والترفيه عموماً يمكنه أن يشكل بالفعل محركاً للنمو الاقتصادي المحلي في السعودية كما هو مخطط له بوصفه أحد أهداف رؤية الوزارة. وكان إعلان انطلاقة مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، والذي سيقام في جدة التاريخية في العام المقبل، ضمن المبادرات، حدثاً مميزاً أنعش السعوديين من هواة السينما والفاعلين في صناعتها ودعمها.
ولكن تظل الإشكالية بالنسبة للإعلام المنتَج من قبل مسلمين أو موجه للمسلمين (الإعلام الحلال كما أطلق عليه في الخارج)، بحسب التقرير، هو تأمين المستوى المناسب من الدعم والاستثمارات والتسويق بشكل صحيح والشروع في تنفيذ استراتيجية طموحة للتوسع.
من جهة أخرى، يمكن للإعلام «الحلال» أن يصبح قوة دافعة إلى الخير وقادرة على الاستمرار، تساعد على تغيير الروايات المتعلقة بالمسلمين ولا سيما في الغرب.
وربما تكون منظمة التعاون الإسلامي، التي تجمع في ركابها 57 دولة إسلامية عضواً، وتتحدث باسم مليار ونصف مليار مسلم، قد أدركت هذا الأمر مؤخراً ونشطت في المجال الثقافي والإعلامي. فمن خلال إطلاق مهرجان منظمة التعاون الإسلامي، الذي أُقيمت نسخته الأولى في القاهرة في شهر فبراير (شباط) الماضي وتنعقد نسخته الثانية في أبوظبي حالياً، تسعى المنظمة إلى تعريف الشعوب الإسلامية بعضها ببعض وتعريف العالم بالثقافات المتنوعة والعادات المختلفة والحضارات المتعددة التي يزخر بها العالم الإسلامي، والإمكانات العلمية والأدبية والابتكارية التي لدى شعوبه، والتي للأسف الشديد تم إغفالها أو إنكارها أو تهميشها عبر تصوير العالم الإسلامي وكأنه بؤرة من العنف والتخلف والفساد والفقر.
كما تبنت المنظمة فكرة إطلاق مهرجان سينمائي لتعزيز التفاهم المتبادل وتوثيق عرى التضامن والتعاون بين الدول الأعضاء وليشكل مهرجان منظمة التعاون الإسلامي للفيلم جسراً ثقافياً بين الدول الأعضاء. فمن دون شك تضطلع الأفلام السينمائية بدور كبير في تشكيل الرأي والمعرفة بالدول والشعوب، ورغم ثراء مخزوننا الروائي وقصصنا عبر التاريخ الماضي والقريب ما زال إنتاجنا السينمائي قليلاً وضعيفاً وتواجهه الكثير من التحديات والصعاب، منها نقص الإمكانات المادية والتقنية.
كم نحن بحاجة في العالم الإسلامي إلى كسب الرأي العام وتغيير صورتنا السلبية النمطية التي فرضتها علينا المجموعات الإرهابية التي صدرت نفسها كمتحدث باسمنا وقدمتها وسائل الإعلام على أنها الصورة السائدة. الموضوع ليس حملة تسويقية أو دعائية، وإنما في عصر أصبح للرأي العام الشعبي قوة ضاغطة في صنع القرار ومؤثرة في صناعته، وصارت الشعوب أكثر وعياً وتفاعلاً، وتعاظم دور المنظمات والجمعيات غير الحكومية، وأصبحت الدبلوماسية الناعمة لأي دولة أو كيان سياسي ركيزة أساسية في تحقيق النتائج المرجوة على أرض الواقع نحو كسب مزيد من التأييد والدعم الجماهيري للقضايا والمواقف السياسية لتلك الدولة أو الكيان.