خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

تضارب الكلام والكلمات

كثيراً ما نقع في شتى المقالب بسبب اختلافنا في استعمال الكلمات. يكثر ذلك بيننا بسبب الاختلافات في اللهجات المحلية الشعبية. أحسن مثال لذلك كلمة بسط وانبسط التي تعني في منطقة الشام ومصر استمتع في حين تعني عند العراقيين ضرب وانضرب. كلمة «فص» تثير مشكلة أخرى، كما وقعت فيها أمامي امرأة عراقية. كانت تطبخ بامية في بيت عائلة لبنانية. وطلبت من سيدة البيت أن تعطيها «فص ثوم». لا أريد أن أخرج من حدود الأدب وأستشهد بالأمثلة التي تنطوي على محتويات جنسية، أبعدنا الله عن الوقوع بأمثالها في أحرج المواقف العاطفية.
ولكنني سمعت في إحدى الحفلات البروفسور رونالد جيمس، أستاذ الجغرافيا في كلية لندن للاقتصاد يروي هذه الحكاية التي مرت به خلال الحرب العالمية الثانية. قررت البحرية الفرنسية إرسال البارجة ريشيليو إلى أميركا لإعادة تسليحها بحيث تستطيع استعمال العتاد الأميركي. طلبت البحرية الفرنسية من القيادة البريطانية تزويدها بما يلزم للبارجة من التجهيزات قبل إبحارها. شمل ذلك تجهيز 1500 حزام نجاة للبحارة الذين يشكلون طاقم البارجة التي قدر لها أن تجتاز منطقة مليئة بالغواصات الألمانية المتربصة لسفن الحلفاء. وصلت البرقية إلى الضابط البريطاني لطلب 1500 برازيير دي سوفتاج brassieres de sauvteage. برازيير تعني لدى الإنجليز الصدرية التي تضعها المرأة على نهديها. وهي ما كانت والدتي رحمها الله تسميها بالزخمة.
استغرب الضابط الإنجليزي من الطلب. كان ملماً بهوى الفرنسيين بالمرأة وكيف أنهم لا يستطيعون العيش بدونها، ولكن هذا العدد ألف وخمسمائة امرأة لسفينة واحدة شيء يفوق المعقول. الحقيقة أن البحرية الفرنسية، على خلاف البحرية البريطانية لم تكن قد سمحت بعد للإناث بدخول سلك البحرية. دفعاً لأي خطأ أو التباس في الموضوع، أبرق الضابط البريطاني لنظيره الفرنسي يسأله ويطلب منه التأكيد. تسلم منه ذلك مؤكداً أنهم لن يغادروا الميناء حتى يتم تجهيز البارجة بهذا العدد من البرازيير نظراً لما قد يواجهونه من خطر الألمان!
تأمل الضابط البريطاني في الموضوع واستغرب. حقاً إن المرأة الفرنسية مهووسة بقيافتها وقوامها، ولكن ألهذا الحد؟ حتى في الموت والأسر تأبى أن يراها العدو وصدرها متهدل. هز الضابط رأسه وأمر مساعديه بالشخوص إلى دكاكين الموضة في لندن في تلك الأيام الصعبة من الحرب. جلبوا هذا العدد من الصدريات بأبهى ما يمكن من النقش والتصميم بما يرضي ذوق المرأة الفرنسية! شحنوا كل ذلك في صناديق نظيفة إلى البارجة ريشيليو.
يروي البروفسور جيمس ويقول هكذا أبحرت البارجة معبأة بألف وخمسمائة صدرية نسائية لنجاة بحارتها في حالة إصابتها وغرقها. لحسن الحظ نجت البارجة من شراك الغواصات الألمانية وعبرت المحيط إلى نيويورك دون أن يحظى الألمان بألف وخمسمائة بحار فرنسي يصارعون الأمواج بصدريات رقيقة مزركشة. ومن حسن الحظ أن الفرنسيين لم يفتحوا الصناديق ويكتشفوا هذا المقلب من خصومهم التقليديين الإنجليز. وكله موضوع تضارب في اللغة!