وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

رفع الحجب عن أسرار «أرامكو»

هناك من يؤمن إلى اليوم بأن سوق النفط العالمية تقوم فقط على المملكة العربية السعودية ومن بينهم فريدون فيشراكي رئيس شركة (فاكتس جلوبال) للأبحاث. في المرات التي استمعت فيها إلى محاضراته وكلماته كان دائماً يؤكد أن أسعار النفط في مكانها الحالي لأن المملكة تريدها عند هذا المستوى.
وفي إحدى المرات كان واضحاً جداً في حديثه بأن السعودية هي التي تسيطر على سوق النفط وهذا طرح لا أجده منطقياً والسبب هو أن إنتاج المملكة الحالي عند نحو 10 ملايين برميل يومياً لا يشكل سوى 10 في المائة من الإنتاج العالمي اليومي وهي تتساوى تقريباً إن لم تكن أقل في كثير من الأحيان مع روسيا ومع ذلك لا أحد يقول بأن روسيا تتحكم في سوق النفط.
ما أجده منطقياً هو أن المملكة هي أكثر الدول تأثيراً في سوق النفط العالمية والسبب في ذلك يعود إلى عوامل متعددة أهمها حجم إنتاجها اليومي وقيادتها الفعلية لمنظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) وحجم احتياطياتها المؤكدة وهو الجانب الأبرز.
ولنترك الحديث جانبا عن احتياطيات فنزويلا فهذا حديث فني لا توجد له أي أهمية من الناحية الاقتصادية والتجارية أو على أرض الواقع إذ كل من في سوق النفط يعلم بأن احتياطي فنزويلا غير قابل للإنتاج بنفس السرعة والكمية التي يتم فيها إنتاج نظيره السعودي. وليس هذا وحسب بل حتى نوعية النفط تحدد بشكل كبير أهمية الاحتياطي السعودي.
ولسنوات طويلة ظل التفكير في صحة حجم الاحتياطي السعودي محورياً لسوق النفط وأصبح القلق عن كمية النفط المتبقية في المملكة متزايدا خلال الأعوام 2003 إلى 2009 ولكن كل هذا القلق ذهب أدراجه مع الريح والسبب في ذلك هو انتهاء فترة نظرية ذروة النفط عندما كان هناك يقين كبير بأن الإنتاج العالمي وصل إلى أعلى مستوياته. هذه النظرية دحرتها التطورات التقنية في استخراج النفط والتي على إثرها عادت الولايات المتحدة لتصبح أكبر بلد منتج له منذ العام الماضي.
والآن تم رفع الحجب والأستار عن احتياطيات المملكة وأعلنت شركة أرامكو السعودية للجميع هذا الأمر في نشرة إصدار الصكوك الدولية، وأصبح الجميع يعرف كم أنتج الغوار في العام الماضي (3.8 مليون برميل يومياً) وكم حجم الاحتياطيات المؤكدة المتبقية به (48 مليار برميل).
هذا الإنتاج يضع الغوار بعد حوض البريميان في تكساس بالولايات المتحدة والذي ينتج الآن ما يزيد عن 4 ملايين برميل ولا يزال البريميان مؤهلا للزيادة فيما الغوار مؤهل للتراجع والسبب في ذلك الفرق في طبيعة الإنتاج والتقنيات إذ إن البريميان ينتج النفط الصخري من خلال التكسير الهيدروليكي بينما الغوار حقل تقليدي ينتجه بالحفر الرأسي والأفقي التقليديين.
وقد تخدعنا الأرقام عن فهم الحقيقة كاملة، فهذا لا يعني أن الغوار لن يستعيد مكانه الطبيعي إذ إن الحقول التقليدية هي صاحبة النفس الأطول بينما الحقول غير التقليدية المنتجة للنفط الصخري وغيره من النفط غير التقليدي، لا تستطيع الاستمرار لعشرات السنين حتى مع كل هذا التقدم التقني الكبير. إن الغوار مليء بالنقاط الحلوة (sweet spots) التي يتم الحفر فيها عن النفط والغاز بينما البريميان لم يعد يمتلك الكثير منها.
ولهذا لا يقلقني ولا يخيفني كل التفسيرات السلبية لنشرة إصدار سندات أرامكو. ومشكلة من يقرأون هذه الأرقام يعتقدون بأن الحياة ستاتيكية وليست ديناميكية ولا يوجد مجال للتغيير.
إن مسألة الإنتاج هي مسألة فنية بحتة تحكمها وتحدها الجيولوجيا إذ إن هناك إطارا جيولوجيا محددا لن نستطيع الخروج عنه وفي داخل هذا الإطار بإمكان التقنية أن تأخذنا إلى أبعد الحدود.
إذن ما هو الإطار الجيولوجي المحدد لاحتياطيات المملكة؟ حالياً هو 800 إلى 900 مليار برميل وهذا هو كل النفط الموجود في باطن الأرض وهناك ثوابت جيولوجية من أهمها هو أننا لن نستطيع استخراج سوى نصف هذه الكمية.
ولكن أرامكو تعكف على زيادة معدل الاستخراج لرفعه إلى 70 في المائة بدلاً من 50 في المائة حالياً. الأمر الجيولوجي الآخر الذي يجعلني مطمئنا نوعاً ما هو صحة الحقول السعودية إذ إن معدل تراجع الإنتاج فيها هو 1 في المائة كحد أقصى بينما المعدل العالمي عند 5 في المائة.
الأمر الآخر الذي أفهمه هو أنه لم يعد هناك حقل نعتمد عليه بشكل كبير كما كان الوضع مع الغوار الذي ظل ينتج نصف الإنتاج اليومي لعقود، بل هناك مجموعة من الحقول تكمل بعضها البعض لتصل طاقة السعودية القصوى الإنتاجية 12 مليون برميل.
والدرس الأهم المستفاد من كل هذا هو أننا حتى لو بقينا منتجاً كبيراً للنفط لعقود طويلة فهذا لا يكفي للأجيال القادمة وهذا ما يجعل الهم الوطني الأكبر للسعودية متركزاً في تنويع مصادر الدخل ولكن هذا أمر يتطلب تحولات كبرى في الفكر والاقتصاد تحتاج إلى سنوات طوال.