سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

كانت مزرعة هادئة للأبقار

تقع نيوزيلندا على إحدى حفاف الأرض. ولا مكان لها في أخبار العالم، إلا من عقد إلى عقد. أو يكاد. وقبل أشهر، وضعت رئيسة الوزراء مولوداً وهي في الحكم، فكان ذلك خبراً طريفاً في باب الاجتماعيات في صحف العالم. وإذا ما فاض إنتاج الحليب عالمياً، تظهر نيوزيلندا على أخبار الأسهم، لأنها أكبر مزرعة للأبقار على هذا الكوكب، وموسمها حيوي لاقتصاد البلاد.
أمس، وقفت جاسيندا أرديرن، رئيسة الوزراء، تقول: هذا أحد أحلك الأيام في تاريخ البلاد. لم تعد نيوزيلندا على حافة العالم، بل في قلبه: عشرات القتلى والجرحى في مجزرة المسجدين. بالرصاص. أحد المارة سمع الطلقات تتتالى بشكل جنوني، فهتف: يا إلهي، فلينفد الرصاص من رشاش هذا المجنون.
في إسلام آباد، اختصر عمران خان الكارثة، قائلاً: هذا يؤكد أن الإرهاب لا دين له! أتذكر دوماً ما قاله لي وزير الخارجية في حكومة ثاتشر، المستر دوغلاس هيرد، عندما قلت له: لماذا لا تبذلون المزيد من الجهد في حل القضية الفلسطينية لأن هذا يريح أوروبا من أعمال العنف؟ أجاب: «نحن نبدأ الخوف حقاً عندما يصبح الإرهاب في يد الرجل الأبيض».
يخيل إلى أن مجزرة نيوزيلندا عمل منفرد. لسنا أمام تلك الظاهرة التي يخشاها الجميع في أوروبا وسائر العالم الأبيض. فلا يزيد عدد المسلمين في هذه البلاد على خمسين ألف نسمة. وليست بينهم وبين الأسر الأخرى أي احتكاك، كما في أوروبا أو أميركا. لكن هذا لا يمنع أن نيوزيلندا قد فقدت براءتها، ولم تعد تلك الدولة القصية عند «مطلع الشمس».
تقول صحيفتها الأولى «نيوزيلندا هيرالد» إن الناس كانت تنظر إلى البلد على أنه الأكثر أماناً في الأرض، وأن الشرطة تدربت على معالجة جميع أنواع الكوارث، لكن لم يخطر يوماً لأحد وقوع هذا النوع من المجازر. وفي أي حال، لا يمكن أن يكون الفاعل (ورفاقه) إنساناً طبيعياً، كما يبدو من خلال «البيان» الذي وضعه في 74 صفحة، وكلف فيه نفسه مهمة الانتقام «لضحايا المسلمين في أوروبا».على وحشيتها وحجمها، تظل مجزرة نيوزيلندا «عابرة» ما دامت منعزلة، أو بالأحرى إذا كانت منعزلة. لكن الرعب الذي يخشاه العالم، هو أن تتحول إلى سياسات منظمة، مع تزايد الموجات الفاشية في أنحاء أوروبا، حيث وصلت إلى الحكم أحزاب ترفض أي تعددية في بلدانها.
يبقى «نوع المجزرة» ومدى شهوة القتل: القاتل يرمي الرجال والأطفال دون توقف أو تردد، رافضاً الإصغاء إلى استغاثتهم. يرميهم في الصدور، وفي الظهور، مقدماً للعالم أجمع نموذجاً غير مألوف من أعمال اليمين المتطرف.