مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

عندما عشت في «نغنغة»

كان لي صديق انتقل إلى رحمة الله قبل ردح من الزمن، وكان مشهوراً ببخله، إلى درجة أن معارفه أطلقوا عليه اسم «قحطة»، كناية عن البخل الشديد. وهو مثلي الأعلى في هذه الصفة الخلاقة، ولو أنه عاش في زمن الجاحظ لأدرجه في كتاب «البخلاء».
وأذكر أنه قال لي: «إنني سافرت في الإجازة الصيفية لعدة دول، ولم أصرف غير 500». وسارعت أسأله متعجباً: يعني خمسمائة دولار بس؟! فرد عليَّ قائلاً: «هل أنت مجنون، إنها خمسمائة ريال لا غير»، وصدقته لأنه لا يتورع عن ركوب الشاحنات، والإشارة للسيارات العابرة (بالأوتوستوب)، أما السكن فلم يدخل «أوتيل» ولا حتى «بنسيون» قط، فنومه كله في الحدائق أو الأرصفة على «sleeping bag»، التي يحملها على ظهره، ويندحش فيها مثلما يندحش الميت في الكفن، ولا أستبعد أنه قد يمد يده بالشحاذة، إذا تسنى له ذلك.
ولا يقلان عنه في البخل الزوجان الألمانيان نيجال وميكا، اللذان سافرا لعدة بلدان في العالم دون أن يضطرا إلى دفع دولار واحد، وقد باشرا رحلتهما الطويلة التي امتدت لتسعة أشهر؛ حيث زارا سبعة بلدان حتى الآن، قبل أن يصلا إلى تركيا.
ويؤمِّن الثنائي نفقات سفرهما بالعمل في مجالات مختلفة، مقابل الحصول على الغذاء ومكان للإقامة، في البلدان التي وصلا إليها.
ونموذج آخر على نحو مختلف، اسمه شلابيغ، وهو شاب مهووس بالتفاصيل، باستعمال مزيج من «أميال السفر» التي حصدها نتيجة للسفر المستمر لعقد من الزمن.
ويسافر هذا الشاب لمسافات تفوق 64 ألف كيلومتر سنوياً، ولا يحب قضاء أكثر من ثلاثة أيام في موقع واحد. ويقول: «أشعر بأن الطائرة أصبحت منزلي الآن، وهناك شعور بالألفة مع أطقم الطائرات» انتهى.
وعن نفسي أقول: إنه إبان دراستي في الخارج، أصبت بضائقة مادية خانقة، ولفت نظري معمل حدادة لـ«دربزينات» الأسواق، غير بعيد عن سكني، أمر عليه كل يوم في ذهابي وإيابي، فخطرت على بالي فكرة، وعرضت عليهم أن أضرب البويات لتلك «الدربزينات»، فوافقوا، وكل يوم ألبس «الأفرول» لمدة ساعتين، ولا شغلة لي غير الإمساك بالفرشاة العريضة ونقل براميل الدهان، وهات يا ضرب، واستمررت على هذا المنوال أكثر من سنة وعدة أشهر.
وكان دخلي من هذا العمل أكثر من راتب البعثة، وعشت في «نغنغة»، يحسدني عليها زملائي. ولأول مرة في حياتي أكون كريماً، عندما أباشر على أحدهم وأدفع عنه ثمن فنجان القهوة، وأنا أضع رجلاً فوق رجل.
وبعد هذه التجربة، صدقوني ليس هناك أروع من النغنغة المصحوبة بشيء من الغطرسة.