تركي الدخيل
TT

ربع قرن على رحيل الصادق... الصادق!

من الرجال، ولا أقول الذكور، من تفتح عينيك مرتين، حين تقرأ عمره حين غادر الدنيا، ولا تدري هل تغبطه على ذلك العمر العريض، أو تغرق في الحزن، لأن مثله رحل واقفاً، قبل أن يصافح الستين، ولا يغار السفراءُ، إلا من أولئك الرجال الذين حملوا أوطانهم، على رؤوسهم، فلم ينسوا، للحظة، قيمة الوطن، وبناءه، وتنميته، وإخراجه من غياهب الجهل، إلى فسحات العلم، دون أن ينتظروا من أحد حمداً ولا شكوراً، ربما لأنهم يعرفون طبيعة قومهم.
لا أقول هذا الكلام المكتنز، غيرة، وغبطة، ومحبة، إلا حين أذكر المفكر الساخر بحزن، والبدوي بتحضر والذي كان يحاضر ويدرِّس بسبع لغات، خلافاً لكونه انتقد البيت من الداخل، راضياً بنصيبه من الغربة، بعيداً عن مدينته بنغازي التي باتت صنواً لاسمه، والتي يقول فيها الصادق النيهوم، رحمه الله: «يشاع عن بنغازي - أم اليتامى - أنها مدينة الكساد، وإن الموتى يمشون في شوارعها في وضح النهار، ويشاع عنها أيضاً أنها - غولة مدينة - لأن بنغازي الحقيقية ماتت مقتولة في الحرب».
كان الرجل، اسماً على مسمى، عندما كرَّر السؤال: من سرق الجامع؟!
وبذات الصدق واصل الأسئلة، مفاتيح المعرفة، بقوله: ماذا يريد القارئ؟!
لا يمكن أن نصنف صادقاً كالنيهوم، إلا بوصفه أحد التنويريين المبكرين، فقد حاول إعادة قراءة النص الديني وفك إشكالاته، واعتبر الفقيه، أحد إشكالات النص، لا حلوله. فدعا القارئ، لإعمال العقل عند التعاطي مع النص.
كان يسافر كثيراً، ويستطرد، بطريقة فاتنة، في عالم الأفكار.
في كل سفر جديد يطرحه، ينظر لتجديد الفهم الديني، كأسطورة ضائعة، تمثل البوصلة التي يمكن للمسلمين بها معرفة الطريق الصحيح. بدلاً من عوالم التيه، التي تكسو واقعهم.
أحياناً أحسب أن تواضع الصادق، وربما تهم قربه من السلطة، لم تسمح بانتشار أفكار الرجل، الذي يصف نفسه، بغريب، ينأى بنفسه عن الخوض في الموضوع الليبي: «أنا رجل غريب، وأنا لا أريد أن أحشر نفسي في شؤون الليبيين، ولكني أتمنى أن أضع بين أيديهم ما أملكه من خبرة»، ولأنه من عادة الطيبين العيش مثل الغرباء بين أهليهم، ساورتني رغبة حقيقية أن أسأله عن الغربة، التي يتحدث عنها في وطنه، حين يقول: «ويكتشف المرء أنه سقط فريسة الغربة في ليبيا أيضاً، ويضع حقيبته فوق كتفه، وينطلق للبحث عن فندق، دامع العينين تقريباً».
طرحت هذا الهاجس، ذات مساء، على صديق ليبي، فضحك ملء شدقيه، وقال: ضيَّع النيهوم ليبيا، لأنه لم يتزوج ليبية، فمرة تزوج فنلندية، وثانية فلسطينية، فالطبيعي أن يبحث عن فندق بليبيا!
ومع كامل تقديري للسيدة الليبية، إلا أن انحيازي للصادق، جعلني أتأثر من التعليق، فقضيت ليلتي أفكر في رد الصادق، لو سمع هذه التهمة الباردة.
عدت لرف كتب الصادق النيهوم الكبير، على صغر مساحته، فإذا هو يكتب عن المرأة، وهو لا يراها والرجل غير مخلوقين مكملين لبعضهما بعضاً. إنه يراها معزوفة جميلة، تؤدى على اختلاف آلاتها الموسيقية، لتصبح، محببة للقلب، مستطابة للأذن.
المرأة والرجل، عنده، وجه الحياة الحافل بكل شيء، ولأنه لا يمكن مقارنة الليل بالنهار، فالنور نقيض الظلمة، إلا أن غيابَ الليل، يحيل اليوم ناقصاً، فلا يكتمل بلا تتابع حركة الاثنين. من هذه المقاربة، ينطلق صاحبنا لعوالمه الجميلة، فيسكبها حكمة، حين يقول: إن المساواة بين المرأة والرجل، مسألة خرافية، ولكن لكل دوره، بحسب ما يقتضيه الظرف، ولكل مكتسباته بحسب الجهد، وفي كلتا الحالتين، هما مكملان لبعضهما!
لم يتفاءل الصادق بانتشار أفكاره، والجميل أن هذا لم يجعل الإحباط يتسرب إليه، فيحجم عن الكتابة، التي أحسبه استخدمها لعلاج ألمه من واقع أمته، أكثر من اعتبارها حلاً.
أعترف لكم أني تمنيته حياً، لعلي أكون صديقاً له، وأكثر ما حرض هذه الرغبة عندي، تواضعه، وانحيازه للأنسنة، بقوله: «أنا لست رجلاً مهماً، ولا صاحب سلطان، ولكن إيماني بالله، يجعلني أحسُّ بأنني سأظفر بصداقة كثير من الرجال الطيبين».
هل أزكي نفسي، عندما أتطلع لمقعد من مقاعد الطيبين؟! لا أجدُ حرجاً، في ذلك بتاتاً!
يا ابن الصحراء الليبية الكبرى، أيها الصِّديق، اسمح لي أن أقول لك بعد ربع قرن على رحيلك، إنك رجل مهم، وإن سلطان أفكارك لا يزول، فهو يستمد قوته من حصاد مستمر للطيبين، أولئك الذين احتفلوا، قبل خمسة أعوام، بنشر مقالاتك، عبر دار «برنيتشي»، ووسمتها بـ«الدلال»!
هل كان العنوان جائزة ترضية؟! ربما، لكنه سعي الطيبين، وما على المحسنين من سبيل!
ومع أني لم أقابل الصادق، إلا أني لا أفتري عليه، عندما أقول بثقة، إن ألد أعدائه كان وما زال: الجهل!
ولأنه ككل العقلاء، يعرف عدوه جيداً، ولا يبخسه حقه ولو كان خَصماً، قال: «الجهل مثل المعرفة؛ قابل للزيادة بلا حدود»!
واتكاءً على المعرفة ذاتها، كان أكثر الأدعية قرباً للنيهوم، ذاك الذي لا يطرق سمعك، من دون أن تلهج بالتأمين عليه: «يا رب، دع سماءك تمطر كتباً، دعها تمطر مدارسَ جيدة ومعلمين وكتباً، وسوف نصنع نحن المطر ونغسل عارنا». وهو يستعمل ناء الفاعلين كثيراً، لأنه مؤمن، أنه ابن أمة، مثخنة، بالجراح والنكبات، وعلينا أن نتعامل مع جهلنا، بالاعتراف، والنقد، والتصحيح، الدائمين. يقول: «المشاكل، مثل الأمراض، فلا يمكن علاجها بالنوايا الطيبة، أو الخطب الفصيحة»، ولأن الحقائق عنده كالأرقام، غير قابلة للاجتهادات، أكد أن «الطريق المسدود لا يوقف سيرك فحسب، بل يرغمك أيضاً على العودة إلى الوراء»!
في حياته، لم يتوقف عقل الصادق عن التفكير، ودائماً ما حيد قلبه، فكان بالضرورة، كثير الحزن سريع الغضب، ولو بين سطوره فقط. حساسيته المفرطة تجاه الجهل والتجهيل، ستجعل ابن بنغازي الفريد، فتى ليبيا المدلل، وفي الوقت ذاته، الناصح الأمين، الذي يثير غيرة الليبيين، وغبطة غيرهم. نقد الواقع، بصدق، أول طرق الإصلاح، وأحد انعكاسات حب الوطن، ذاك الذي كان ملازماً للنيهوم، حدَّ الإحساس بالحزن والشعور بالغربة في الوطن.
التحذير الذي لا يطلقه إلا العارفون، قال الصادق: «الجهل لا يرى الجهل، لأن الأعمى لا يرى الأعمى، فتفضلوا بالبكاء عندما يصطدم العميان»، ومثل النيهوم، يعلن عن اصطدام جماعي لعميان، ميزتهم الآية: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).