حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

انتهاء «داعش»... من المبكر الاحتفاء!

رسمياً، عمّرت «داعش» نحو خمس سنوات. في يونيو (حزيران) 2014 أعلن أبو بكر البغدادي قيام دولة «الخلافة» الإسلامية المزعومة في العراق والشام التي تحولت في فترة قصيرة إلى إحدى أكبر الحركات الإرهابية تمويلاً وتنظيماً وخطراً تجاوز المنطقة إلى كل المعمورة، وفي نهاية شتاء عام 2019 يشهد العالم في بلدة «الباغوز» في شرق الفرات النهاية الرسمية للمغامرة الأشد إجراماً على أيدي قوات «قسد» (قوات سوريا الديمقراطية) المدعومة من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
في «الباغوز» جرت المعركة الضارية الأشد عنفاً التي توجت الحملة العسكرية لـ«قسد»، وقد استمرت طيلة الأشهر الستة الأخيرة لتطهير المناطق الأشد وعورة في شرق الفرات التي تحصّن فيها قتلة يائسون. في هذه المعركة وضعت على أعناق قوات «قسد» مهمة حقن دماء عشرات ألوف المدنيين، وإنقاذ الأسرى والمخطوفين الذين استُخدموا دروعاً بشرية. إنها المعركة الأطول لطي الصفحة الرسمية لـ«داعش»، قدمت فيها القوات المهاجمة ثمناً للانتصار نحو ألف قتيل من أبناء سوريا كرداً وعرباً، عبروا حقول الموت المزروعة بآلاف الألغام والانتحاريين والقناصة، الأرض كانت مفخخة ومثلها الشجر والبيوت والركام، وفوق ذلك موجات من السيارات المفخخة، وعندما ستؤرخ هذه المرحلة سيسجل المدونون أن أبناء هذه البلاد الذين وسموا بالجملة بسمة الإرهابيين هم في طليعة القوى التي أنهت هذه الموجة الإجرامية التي خلفت تنظيم «القاعدة».
الانتصار العسكري كبير ومهم وجميل ومفرح، ويرتب على المنتصرين مهام جساماً من متابعة أمنية دقيقة إلى بدء عملية إعادة إعمار وتنمية، والأهم وقف كل أشكال التمييز، لكن مهلاً، من المبكر الاحتفاء النهائي، فمثل هذا التنظيم لم ينتهِ، وربما هو في الطريق للعودة إلى شكلٍ إرهابي آخر لا يسيطر على الأرض، لكنه بالتأكيد قادر على تنفيذ هجماتٍ إرهابية موجعة. لقد كان تنظيم «داعش» أشبه ببوليصة تأمين خططٍ إرهابية ومشروعات الهيمنة الإقليمية؛ لذا يجب ألا يغيب عن الذاكرة أدوار المستثمرين في هذا الإرهاب أكثر من سواهم، وبالأخص المالكي والأسد وإردوغان، وخلفهم حكام طهران؛ لذلك هذا التنظيم لن يختفي كلية من الوجود كما قد يُظن، فما زالت هناك حاجة لدى أطرافٍ مختلفة إلى توظيف هذا الإرهاب في لعبة إنضاج المشروعات الخطرة.
في تقدير العسكريين الأميركيين، أنه ما زال هناك نحو 20 ألفاً من إرهابيي «داعش» أكثريتهم تعذَّر عليهم الخروج من المنطقة، ويرجّح مسرور البارزاني المسؤول الأمني في كردستان وجود نحو 15 ألفاً في العراق وحده، وتقول معطيات مستقاة من جهات سوريا متابعة، إن تنظيم «داعش» منتشر في البادية الشامية، وريف السويداء وريف البوكمال، وأجزاء من حوض اليرموك إلى أرياف الشمال، وقادر على إحداث فوضى كبيرة، واللافت أنه لا ميليشيات النظام السوري، ولا الميليشيات الإيرانية، ولا القوات التابعة لقاعدة حميميم تتحرك ضد هذه المجموعات. وبالتوازي، رغم الإقرار من جانب الساسة في العراق، بأن الفكر الذي يوجه هذه الجماعات لا يُحارَب فقط بالعمل العسكري والتشدد الأمني، فإن المعاينة الدقيقة لأحوال العراق المستقر نسبياً لا تؤشر إلى وجدود خطوات جدية تعالج الأسباب التي أعطت هذه الظاهرة كل الحجم الذي أخذته والتأييد الذي نالته. حتى اليوم بعد عامين على التحرير ما زالت الجثث تحت الركام في الموصل المهدمة، وما زال سائداً التمييز والتهميش، والمجموعات «الداعشية» تضرب في أكثر من منطقة فيحذّر مؤخراً إياد علاوي، رئيس الوزراء العراقي السابق، من أن «الأوضاع في العراق والمنطقة تشجع على الإرهاب وليس على محاربته».
بضعة ألوف من إرهابيي «داعش» تم القبض عليهم، قليلون نجحوا في الخروج إلى مناطق رمادية في شرق آسيا، أو إلى مناطق جنوب الصحراء والساحل في أفريقيا، والكثرة ذابوا في بيئة مؤاتية في العراق وسوريا، وكُثر هم الذين اندسوا في المخيمات لإعادة بناء الخلايا. والحديث عن عودة هذا التنظيم لا تتوقف بعدما انتشرت فكرة «الولايات الأمنية» بديلاً عن «ولايات الخلافة». وهذه الاستراتيجية تنطلق من وجود «خلايا نائمة» و«انغماسيين» نجحوا باكراً في الخروج من مناطق القتال، فضلاً عن أعداد غير قليلة من «الذئاب المنفردة»، يتحركون باستقلالية أكبر بحيث يضمن التنظيم استمرار الموجة الإرهابية في المنطقة والعالم، ما دامت الحلول السياسية المستدامة معلقة، والخطوات التنموية الحقيقية التي تتيح عودة اللاجئين والنازحين مؤجلة، في حين الجروح الطائفية مفتوحة، والنفخ المذهبي مستعر؛ ما يعني تشجيعاً للبؤر الحاضنة على النمو.
لقد كان لافتاً أن بعض الخارجين من مقتلة الباغوز تباهوا بتأييد «داعش»؛ لأن المسألة أبعد مما زُرعَ في العقول، ذلك أن معايشتهم التمييز والظلم جعلتهم على قناعة بهذه التجربة رغم كل السواد الذي تركته، وهذا بالضبط ما نبّه منه الموفد الدولي غير بيدرسون عندما ركز في إحاطته الأولى أمام مجلس الأمن الدولي من أنه مع استمرار الوضع الراهن في سوريا دون أي تقدم في العملية السياسية يمكن لتنظيم «داعش» أن «يولد من جديد من تحت الرماد»!!
في هذه اللحظة، من المشكوك فيه أن تكون المنطقة العربية والعالم أمام نهاية هذا الكابوس، فكل ما يجري هو سقوط نسخة دويلة «داعش»، الظاهرة الإرهابية الأكثر عنفاً التي حلّت مكان «القاعدة» دون أن تلغيها، وبالتالي الخشية كبيرة جداً أن تتبلور جهات إرهابية جديدة وغير منظورة تستثمر في الظلم المستمر، وفي العراق كما في سوريا هناك الكثير من المؤشرات المقلقة، حيث تلجأ مجموعات تحمل تسميات مختلفة إلى اعتماد تكتيكات «القاعدة» لجهة تنفيذ ضربات مفاجئة وموجعة.