وليد أبي مرشد
صحافيّ وكاتب وخبير اقتصادي لبنانيّ
TT

ضائعان في الزمن

قد يبدو مستهجنا الادعاء بوجود شبه ما بين «الظاهرة الحضارية» المسماة «داعش» والإدارة الأميركية في عهد الرئيس باراك أوباما. مع ذلك من الصعب الإنكار بأن كليهما «ضائع في الزمن» - زمن الشرق الأوسط على الأقل.
«الداعشيون» ضبطوا ساعتهم عقائديا (إن صح التعبير) على توقيت القرون الوسطى وأيامها، وحاليا يشحذون همم مقاتليهم في ريف حلب لخوض ما يعتبرونه معركة دينية فاصلة تكون منطلق سيطرة مقاتليهم «على العالم والروم»، تماما كما كانت موقعة مرج دابق، قبل خمسمائة سنة، منطلق سيطرة العثمانيين على المشرق العربي.
أما ساعة إدارة الرئيس أوباما، فلا تزال متوقفة عند عام 2003، عام اجتياح القوات الأميركية للعراق في عهد سلفه الجمهوري جورج بوش.
لا جدال في حق الرئيس أوباما الاستنتاج، بعد عقد ونيف على غزو العراق، بأن القوات الأميركية فشلت في إعادة الاستقرار - ناهيك بما روجه الإعلام الأميركي عن حياة ديمقراطية - إلى بلاد الرافدين، وأن يقرر سحب قواته من بؤرة توتر تحول مع الأيام إلى مسلسل عنف دام.
ولكن بقدر ما تسرع الرئيس بوش في غزوه العراق، تسرع الرئيس أوباما في سحب قواته من العراق دون إيلاء اهتمام يذكر بما سيرتبه الانسحاب المبكر من تبعات سياسية وأمنية قد لا تقتصر أبعادها على العراق وحده. ومما زاد أوضاع المنطقة تدهورا إحجامه، قبل ثلاث سنوات، عن تقديم أي عون مباشر للمعارضة السورية المعتدلة لنظام الرئيس بشار الأسد مما أتاح للفصائل الجهادية الأفضل تمويلا وتجهيزا فرصة سانحة لاحتلال الصدارة في المواجهة العسكرية مع النظام، على حساب «الجيش السوري الحر» والفصائل المعارضة المعتدلة.
لكن قواعد اللعبة السياسية - العسكرية تتبدل جذريا اليوم في المشرق العربي وبوتيرة تدفع إدارة الرئيس أوباما - ربما مكرهة - إلى إعادة ضبط ساعتها على التوقيت الحالي للمنطقة.
جملة تطورات لم تعد تسمح لإدارة أوباما بمواصلة سياسة «غسل اليدين» من أحداث الشرق الأوسط بينها:
1 - استمرار تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية في كل من العراق وسوريا وما تشكله من خطر محتمل على دولة التعايش المذهبي الدقيق في المنطقة، أي لبنان، وتحديدا الوجود المسيحي فيه.
2 - تنامي احتمال قيام «دولة خلافة» متطرفة على أرض سوريا والعراق مع ما تمثله من إطاحة مرتقبة لكل ما تبقى من مظاهر الدولة الحديثة ومؤسساتها في المشرق العربي.
3 – بروز تهديد مباشر للمصالح الغربية الاستراتيجية والاقتصادية في المنطقة، خصوصا بعد أن كشفت حدود التمدد الجغرافي لدولة «داعش» عن خططها للسيطرة على حقول النفط والغاز في كل من سوريا والعراق وعلى مساحات شاسعة من أراضيهما الزراعية استعدادا لأن تصبح «دولة» مكتفية اقتصاديا بمواردها الذاتية.
رغم إعطائه الضوء الأخضر، في الثامن من أغسطس (آب) الحالي، لسلاح الجو الأميركي لقصف قوات «داعش» ووقف تقدمها، ما زال الرئيس أوباما يحاول احتواء تفاقم حالة الفوضى في العراق بكثير من الضغط السياسي والقليل من التدخل العسكري. وهذه المقاربة الحذرة لأوضاع العراق حملت الكثير من منتقدي سياسته الشرق أوسطية على اتهامه بأن ما فعله في العراق جاء متأخرا ودون المستوى المطلوب. وعلى هذا الصعيد يصعب اعتبار إزاحة رئيس الوزراء العراقي «المزمن»، نوري المالكي عن كرسي الرئاسة إنجازا أميركيا خالصا بعد أن تضافر العالم بأجمعه، تقريبا، على مقاطعته، بما في ذلك إيران.
قد يشكل تكليف حيدر العبادي برئاسة الحكومة العراقية الجديدة مدخلا مناسبا لإعادة الاستقرار إلى العراق، خصوصا إذا جاءت حكومته جامعة ومصححة للتمثيل السني بحيث تضع حدا لاعتبار البعض منهم «داعش» المظلة الحامية لمصالحهم.
مع ذلك، لا تزال أمام الرئيس أوباما مهمة شاقة، فمن غير الواقعي الافتراض بأن إعادة الاستقرار إلى الحياة السياسية في العراق كفيل، بحد ذاته، بوقف تمدد «الداعشيين» بعد أن بات إحباط «دولتهم» يتطلب تدخلا أميركيا في سوريا أيضا.
.. ولكن، هل ثمة مجال لإعادة نظر جذرية في دبلوماسية واشنطن الشرق أوسطية في عهد الرئيس أوباما؟