د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

هل أخطأ ماكرون التوقيت؟

عاصفة هوجاء تلك التي واجهها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال الثلاثة أشهر الماضية، والتي سميت بمظاهرات «السترات الصفراء»، وحتى هذه التسمية اُختلف فيها بين من سماها مظاهرة ومن سماها شغباً... ولكن بكل الأحوال فقد تسببت السترات الصفراء في تغيير لهجة الرئيس الفرنسي من لهجة متعالية إلى أخرى متواضعة بحسب وجهة نظر المتظاهرين ضده.
ولعل عدد المتظاهرين في حادثة السترات الصفراء هو الأكبر منذ مايو (أيار) 2002 حين خرج المتظاهرون ضد جان لوبان، رئيس حزب الجبهة الوطنية الفرنسية... وفي ذلك الوقت خرج أكثر من مليون فرنسي في الشوارع في احتجاجات ضد تصريحات لوبان، ورغم وجود عامل مشترك بين مطالبات لوبان وماكرون، وهو تغيير نظام التقاعد للموظفين الحكوميين الفرنسيين، إلا أن الفارق كبير بين الاثنين من ناحية الانتماء السياسي والخطة المقترحة. فهل كانت إصلاحات ماكرون الاقتصادية مستفزة للفرنسيين إلى هذا الحد؟
تعاني فرنسا من عجز في ميزانياتها يبلغ 2.8 في المائة، وهو عجز مستمر منذ سنوات زاد بسببه الدين العام في فرنسا، ويبلغ الحد الأعلى المسموح به في دول الاتحاد الأوروبي 3 في المائة، أي أن فرنسا قريبة جدا منه، وبسبب هذا العجز تقدم الرئيس الفرنسي بخطة تزيد من فاعلية الإنفاق الحكومي الفرنسي الذي يزيد على 56 في المائة من الناتج القومي الفرنسي، وتمحورت هذه الخطة حول عدة برامج، لعل أكبرها هو تغيير نظام التقاعد للموظفين الحكوميين الفرنسيين، وهذا الأمر تحديدا من الصعب تقبله للفرنسيين، فنظام التقاعد في فرنسا يعطي حرية للموظفين بالتقاعد المبكر وهو ما يزيد الضغط على الحكومة في دفعات التقاعد، كما أن فرنسا تعد من أعلى الدول الأوروبية من حيث الإنفاق على الموظفين الحكوميين، حيث تبلغ رواتب الموظفين الحكوميين 13 في المائة من الناتج القومي الفرنسي، في حين أن هذا الرقم لا يزيد على 9.5 في المائة في بريطانيا والولايات المتحدة، ويبلغ 7.7 في المائة في ألمانيا!
كما أن الموظفين الحكوميين في فرنسا يتمتعون بحقوق وظيفية أشبه بالحصانة وأمان وظيفي عال. ويرى الرئيس الفرنسي أن تتم إعادة صياغة نظام التقاعد الفرنسي بحيث يمكن التحكم به بقوانين أكثر صرامة، ومعاملة الموظفين بحسب جدارتهم وأدائهم الوظيفي، كما اقترح معاملة الموظفين الحكوميين بعقود مشابهة لعقود موظفي الشركات، كما قدم الرئيس الفرنسي أيضا خططا أخرى تقترح زيادة أسعار المحروقات وتعديل النظام الصحي ونظام السكة الحديد (وهي شركة تابعة للحكومة الفرنسية)، وزيادة الخصخصة وتشجيع الابتكار في الشركات ودعم التعليم الجامعي في البلاد.
هذه المقترحات أثارت استياء الفرنسيين، وبدأت بعدها حالة من الشغب في البلد وصف المشاركون بها بـ«المخربين» من الرئيس الفرنسي نفسه، الذين وصفوه بالمقابل بـ«رئيس الأغنياء»، وبعد فترة من حالات الاضطراب خرج ماكرون محاولا تهدئة الأوضاع وإقرار خطة سوف تكلف الحكومة الفرنسية أكثر من 8 مليارات يورو تقوم بموجبها الحكومة الفرنسية بدفع 100 يورو لكل من يعمل بالحد الأدنى من الأجور، إضافة إلى إلغاء الضرائب المقررة على المحروقات (وهو السبب الذي يبدو أساسيا في المظاهرات).
وبحسب هذه الخطة، سوف يرتفع العجز الفرنسي العام القادم إلى 3.2 في المائة، أي أن وضع الاقتصاد الفرنسي سيزيد سوءا، وهو ما رجّح أن الرئيس الفرنسي راهن على صبر الفرنسيين على تغييرات كثيرة في وقت واحد، وأن ما توجب عليه هو إقرار هذه الإصلاحات بشكل تدريجي.
ومن وجهة نظر أخرى، فإن هذه الإصلاحات لا تبدو سيئة إلى هذا الحد، فبعيدا عن الضريبة المفروضة على المحروقات، فإن كثيرا من دول العالم تحاول تخفيض الإنفاق الحكومي على الاقتصاد وزيادة إنفاق القطاع الخاص عليه... وما حاول فعله الرئيس ماكرون هو ذاته ما فعلته مارغريت ثاتشر في بريطانيا في ثمانينات القرن الماضي الميلادية، ولكن الزمن اختلف بكل تأكيد. فالحملة الشعوبية الحالية جعلت الفرنسيين يظنون أن جميع رؤساء العالم يضعون شعوبهم في المرتبة الأولى إلا ماكرون، فشعار الرئيس الأميركي هو «أميركا أولا»، وجارتهم بريطانيا تستعد للخروج من الاتحاد الأوروبي لما فيه «مصلحة الشعب البريطاني»، وكذلك هو الحال في دول أخرى. ولذلك فقد وجد في المظاهرات من يرفع شعار «فركست» مطالبا بخروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي على طريقة «بريكست» في بريطانيا. كما رفع بعض الفرنسيين مطالباتهم أن يكون ترمب رئيسا لهم ليضع مطالبهم في المرتبة الأولى، وهو ما لم يفوت ترمب استغلاله بكل تأكيد في تصريحاته. بل ووجد من بين المتظاهرين ناشطون بيئيون يطالبون بإصلاحات صديقة للبيئة وهو ما لم يشر إليه ماكرون ضمن خطته.
إصلاحات ماكرون الاقتصادية قد يراها البعض مجحفة في حق الشعب الفرنسي، إلا أنها ذات الإصلاحات التي يقترحها البنك الدولي على الدول التي تعاني اقتصاديا مثل تركيا واليونان والأرجنتين وغيرها، وهي إصلاحات تتمحور حول تخفيض الإنفاق الحكومي ودعم القطاع الخاص. وقد حاول ماكرون استباق الأزمة الاقتصادية بإعلان إصلاحات قبل حدوث الأزمة، إلا أن حظه السيئ جعل فترة حكمه في فترة تعصف بالعالم موجة شعوبية. أما سياسته الاقتصادية فقد ضمنت للاقتصاد الفرنسي نموا في عام 2018 حتى رغم هذه المظاهرات، إلا أن نسبة هذا النمو أقل من العامين السابقين، وهو ما فيه دلالة على أن الرئيس الفرنسي محق في اقتراح إصلاحات اقتصادية، أما القادم للاقتصاد الفرنسي فلا يبدو مشرقا في ظل هذه الظروف.