وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

ما هي التقنية المدمرة القادمة؟

التقنيات المدمرة (disruptive technologies) كثيرة في هذا العالم. ونحن نتعامل يومياً مع كثير منها، ونحرص على شرائها ودعمها، وهذا الأمر لا يختلف عندما نتحدث عن الهواتف النقالة أو الإعلام أو النفط. التقنية المدمرة هي التقنية التي تخلق سوقاً جديدة وشبكة قيمة جديدة تحل محل سوق حالية، وتقضي بذلك على شركات ومنتجات وتحالفات تجارية. هذا الأمر شاهدناه في الهواتف النقالة، فمع ظهور الهواتف الذكية تدمرت سوق الهواتف النقالة العادية. ولكن مع الوقت تصبح أي تقنية مدمرة، تقنية عادية حتى تأتي تقنية مدمرة أخرى وتحل مكانها.
الأمر نفسه في سوق النفط، إذ تظهر تقنيات مدمرة كل بضع سنوات أو عقود تغير قوانين اللعبة. فعندما ظهر الحفر الأفقي، تغيرت سوق النفط، وأصبحت هناك كميات كبيرة إضافية، وتمكن كثير من الدول من الاستمرار في الإنتاج. لكن هذا لا يقارن بالتكسير الهيدروليكي، إذ كان تقنية مدمرة بكل ما يحمله التعريف من معنى.
لقد أسس التكسير الهيدروليكي صناعة كاملة في الولايات المتحدة للنفط والغاز الصخري. ورغم أن تقنيات التكسير واستخراج النفط والغاز الصخري ليست حديثة، بل تعود لأكثر من نصف قرن، فإن تطور التقنية وتحولها إلى تقنية تجارية كانت هي نقطة التحول التي حوّلت أميركا إلى دولة مصدرة للغاز والبترول، وأعادت لها هيبتها كأكبر بلد منتج للنفط منذ العام الماضي.
وبسبب هذه التقنية المدمرة، تواجه منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) تحدياً كبيراً في التحكم بسوق النفط، خاصة أن كميات النفط الصخري الذي يتم إنتاجه غير معروفة. ويحمل حوض البريميان في تكساس مفاجآت يومية لسوق النفط، ولا أحد يعلم أين سينتهي الأمر.
هل ستنتهي هذه الفورة في 2025، أم قبل ذلك، أم بعد ذلك؟ لا أحد يعلم، ولكن ما نعلمه هو أن «أوبك» عليها عبء كبير لموازنة السوق، في ظل عدم وضوح المعطيات، وعدم وجود جهة مركزية تتحكم في حجم الإنتاج الأميركي.
لكن هل هذه هي التقنية المدمرة الوحيدة التي تهدد عرش دول النفط؟ في الحقيقة لا أحد يعلم أين ستكون التقنية المدمرة القادمة، ولكن يمكن التنبؤ بها من خلال النظر إلى عاملين. الأول هو حجم وآلية البحث والتطوير. والثاني هو وجود نظام إيكولوجي كامل للتعليم والبحث والتطوير يقود إلى إنتاج التقنيات وجعلها تجارية.
والآن نعود إلى المصادر المحتملة القادمة للتقنيات المدمرة. صناعة الطاقة تموج بالتقنيات والأبحاث، ولا يمكن التنبؤ أياً يكون مدمراً. قد يكون الفحم هو التقنية المدمرة القادمة إذا ما تحسنت وسائل تحويله إلى وقود سائل، وهذا الأمر قائم، وهناك مشروعات من هذا النوع في العالم. وقد يتقدم الفحم إذا ما تحسنت تقنيات الفحم النظيف، التي تهدف إلى تنقية استخدامه. ويجري حالياً في الإمارات بناء محطات كهرباء قائمة على تقنية الفحم النظيف تعمل جنباً إلى جنب مع محطات الطاقة النووية التي سيجري تطويرها.
وقد تتطور السيارات الكهربائية بصورة أفضل مما هي عليه الآن، وتصبح تقنية مدمرة أخرى تقضي على صناعة كاملة.
إن التقنيات المدمرة لا تظهر من فراغ، بل تأخذ وقتاً حتى تتطور وتصل إلى النضج، والدليل هو التكسير الهيدروليكي الذي كان معروفاً لسنوات، ولكنه تحسن مع تحسن التقنيات أو تغير التشريعات.
ما يهمنا الآن كدولة نفطية هو التفكير في أمر واحد. هو كيف نخطط للمستقبل بغض النظر عن نوعية التقنية المدمرة القادمة. هناك حلين لا ثالث لهما. الأول تنويع مصادر الدخل بعيداً عن النفط والغاز، والاستثمار في البحث والتطوير بشكل عام. أما الثاني فهو الاستثمار المباشر في التقنيات المدمرة المستقبلية.
لقد قدّمت السعودية نموذجاً كبيراً لكل دول «أوبك» في هذه الناحية. لقد تم بناء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) لدعم البحث والتطوير. وهناك مؤسسات الآن تعمل على تحويل الأبحاث الأكاديمية إلى تقنيات مرخصة، مثل شركة تطوير المنتجات البحثية، أو الشركة السعودية للتنمية والاستثمار التقني، وهناك شركات مثل شركة «أرامكو» لشراكات الطاقة (SAEV) التي تستثمر في الشركات المتوسطة والصغيرة، صاحبة التقنية، وتقوم بدعمها لكي تكبر. وهناك تكتلات وتجمعات صناعية لدعم الابتكار في هذا المجال، مثل مجمع الملك سلمان للصناعات والخدمات البحرية، ومدينة الملك سلمان للطاقة (SPARK)، ووادي الظهران للتقنية وغيرها.
هذه المنظومة سوف تساعد على نقل التقنية إلى المملكة بشكل كبير، وخلق فرص كبيرة، ولكن كل هذا يحتاج لنظام أكاديمي قوي يدعمه وأنظمة تجارية متقدمة. قد تكون هذه المنظومة بها كثير من العيوب التي لا تساعد على نموها بسرعة، ولكن هذه هي البداية، والمأمول أكبر من الواقع الحالي. والأهم هو أن يكون هناك توجه وتجارب، في الوقت الذي لا يزال فيه كثير من دول «أوبك» تنام في العسل نوماً عميقاً، ولن تستيقظ إلا على تقنية مدمرة تقضي تماماً على سبل عيشها ودخلها. هذا ما عاشته دول الخليج في عهد تجارة اللؤلؤ عند ظهور اللؤلؤ الصناعي.