عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

إزاحة غطاء الوعاء القديم

خريطة الطريق التي أوصلت عربة مفاوضات «بريكست» (اتفاقية خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي) إلى منحدر الانزلاق الذي أراد السائق تجنبه أصلاً وهو الخروج بلا اتفاق، تهدد حركة التجارة الأوروبية، وبالتالي حركتها عالمياً، وأسعار العملات هي نموذج يجب أن يتجنبه أي مفاوضين في اتفاقيات عالمية أو إقليمية.
الأطراف المعنية؛ المملكة المتحدة، والمفوضية الأوروبية وجمهورية آيرلندا (آيرلندا الجنوبية).
الخطأ الأكبر هو استخدام أوراق ضغط قد توقظ وحوشاً نائمة بإثارة مشكلات تؤدي إلى مشكلات كبرى لم تكن في الحسبان.
علاقة المملكة المتحدة وآيرلندا تاريخية. البلدان جغرافياً في الجزر البريطانية، وسياسياً كانت آيرلندا جزءاً من المملكة المتحدة حتى عام 1922.
الآيرلنديون يتقسمون جغرافياً بين الجمهورية الآيرلندية؛ 4 ملايين و804 آلاف (أغلبهم كاثوليك) ومليون و811 ألفاً (أغلبهم بروتستانت) في آيرلندا الشمالية وتكوّن مع بريطانيا العظمى (اسكوتلندا، وإنجلترا وإمارة ويلز) المملكة المتحدة.
التشابك الاقتصادي هو الصمغ الذي يؤدي لتماسك العناصر الثلاثة الأخرى؛ التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا.
المنتجات الزراعية خصوصاً الحيوانية (الألبان) هي الأهم في التبادل على مدار الأربع والعشرين ساعة بين الجانبين، وهي ليست بحساسية المنتجات الأخرى بالنسبة للتعرض للتلف.
ثلث صادرات آيرلندا الشمالية ينتقل برياً إلى الجمهورية الآيرلندية، مقارنة بـ6 في المائة فقط من منتجاتها تنقل بحراً وجواً إلى بقية بلدان المملكة المتحدة. بالمقابل، تستورد آيرلندا الشمالية 28 في المائة من احتياجاتها من آيرلندا الجنوبية، مقارنة بـ3 في المائة فقط من بقية أنحاء المملكة.
تجارة المملكة المتحدة ككل (5.5 في المائة من الصادرات أو 34 مليار جنيه إسترليني/ 44.5 مليار دولار) مع آيرلندا الجنوبية في البضائع والخدمات تظهر فائضاً إيجابياً بـ2.1 في المائة (16 مليار دولار) في الميزان التجاري لصالح الأولى على حساب الأخيرة التي تشكل صادرتها (17 مليار دولار) 3.4 في المائة من كل مستوردات المملكة.
وآيرلندا الجنوبية كانت خامس أكبر سوق للصادرات البريطانية وتحتل المركز التاسع في مصدر الواردات في الفترة حسب أرقام 2017، التي شهدت زيادة في الأرقام عن العام السابق رغم تصويت غالبية سكان المملكة بالخروج من الاتحاد الأوروبي (52 في المائة) بينما صوت أغلبية (55.8 في المائة) من سكان آيرلندا الشمالية بالبقاء في الاتحاد.
قائمة الـ15 من البضائع المتبادلة مع بلدان الاتحاد الأوروبي التي تتأثر مباشرة ببريطانيا، والحركة فيها تشمل 11 من صادرات آيرلندا الجنوبية ليس فقط إلى المملكة المتحدة، بل للاتحاد الأوروبي ككل، ما يبيّن مدى قلق المؤسسات والمنشآت التجارية الآيرلندية بـ«بريكست»، وفق أرقام تقرير وزارة المالية الآيرلندية الصادر في سبتمبر 2017 عن تأثير «بريكست» في تجارة بلادها.
الوضع الجغرافي يجعل آيرلندا أكثر دول الاتحاد الأوروبي تأثراً بـ«بريكست».
ورغم أن سوق المملكة المتحدة هو اتجاه 17 في المائة من صادرات الجمهورية الآيرلندية (90 في المائة من الصادرات هي منتجات الحبوب والألبان والمنتجات الزراعية)، فإن الرقم يقفز إلى 44 في المائة، إذا استبعدت المنشآت المملوكة لجهات أجنبية التي قد يغادر بعضها الجمهورية الآيرلندية، خصوصاً أن أغلبها استثمارات بريطانية أو من بلدان الكومونولث، التي قد تجد أن تغيير اللوائح الضرائبية التي جعلتها تتجه إلى دبلن أصلاً، قد تجعل من لندن مركزاً أفضل للاستثمار. وهذا بالطبع يهدد ما يقابل نصف سوق العمالة في آيرلندا الجنوبية.
التأثير في المملكة المتحدة من الناحية الاقتصادية أقل كثيراً، لأن تجارة لندن مع الاتحاد الأوروبي التي تبلغ 358 مليار دولار تمثل 44.5 في المائة من صادراتها العالمية (806 مليار دولار)، بينما يميل الميزان التجاري لصالح بروكسل بـ9.4 في المائة، حيث تبلغ واردات بريطانيا من بلدان الاتحاد الأوروبي 341 مليار جنيه إسترليني (446 مليار دولار)، مقارنة مثلاً بفائض 9 في المائة في الميزان التجاري لصالح المملكة المتحدة في التجارة مع الولايات المتحدة، حيث تصدّر بريطانيا ما قيمته 147 مليار دولار من البضائع والخدمات إلى أميركا، وتستورد منها ما قيمته 92 مليار دولار.
السوق البريطانية تمثل فقط أقل من ثلث نسبة صادرات آيرلندا إلى بلدان الاتحاد الأوروبي الـ26 الأخرى، لكن طريق وصول هذه البضائع إلى بقية أنحاء أوروبا هو بريطانيا.
42 في المائة من مجمل صادرات آيرلندا (إلى جانب صادرتها إلى المملكة المتحدة) يصل إلى أوروبا عبر ميناء ليفربول غرب إنجلترا، والشاحنات براً إلى جنوب إنجلترا، ثم نفق بحر المانش، أو عبارات نقل البضائع من الموانئ الإنجليزية في رحلة مدتها 10 ساعات إلى ميناء زيبروغه البلجيكي (مبيعات آيرلندا إلى بلجيكا وحدها تفوق مبيعاتها إلى بريطانيا بمليار دولار) لتصل إلى بقية أنحاء أوروبا وإيطاليا، مقارنة بـ21 ساعة إبحار إلى ميناء شيربورغ الفرنسي (الذي يضيف 4 أو 6 ساعات أخرى إلى مسافة النقل الأرضي) أو 38 ساعة إبحار إلى ميناء زيبروغه، أي أن الفارق هائل بالنسبة للمأكولات والمنتجات الزراعية، خصوصاً الحية كالعجول إلى جانب استهلاك الوقود في التبريد.
آيرلندا وهي واحدة من الأبناء الصغار (سابقاً) في الأسرة البريطانية وجدت في الاتحاد الأوروبي فرصة للمساواة مع الأم العجوز لندن، لكن التعبير القديم «إنه الاقتصاد يا غبي» يبدو أنه فات رئيس الوزراء الآيرلندي ليو فاردكاه، عندما تمادى في السير في الطريق التي فتحها المفاوض الأوروبي - بمراوغة شديدة ونية غير طيبة - لافتعال قضية وهمية عبر الحدود بين الآيرلنديتين (وهي حدود على الورق، لكن تمر عبر حقول مزروعة وحدائق منازل) لإزاحة الغطاء عن وعاء النعرات القومية لدى المتشددين الجمهوريين، وأغلبهم من الكاثوليك، على جانبي الحدود. وبالمقابل يشعر الوحدويون المنتمون (وأغلبهم بروتستانت) بخطر تحولهم إلى أقلية فتثار نعرة قومية أساسها الخوف قبل الفخر. وبينما نيات بروكسل إما تعطيل «بريكست» بإبقاء المملكة المتحدة فعلياً في الاتحاد، أو معاقبة الشعب البريطاني على تصويته بالخروج، فإن المتابع لصفحات الرأي في الصحف الآيرلندية، والمناقشات على وسائل التواصل الاجتماعي يجد إحياءً لجروح قديمة ظننا أنها طويت برخاء السلام وفوائده الاقتصادية بمعاهدة إنهاء الحرب (1921) التي أدت إلى استقلال آيرلندا عن المملكة المتحدة. السيارة المفخخة التي فجرها إرهابيون منشقون عن منظمة الجيش الآيرلندي في 20 من الشهر الماضي أمام دار القضاء في لندنديري، هي تذكير بخطورة لعبة مفاوضي الاتحاد الأوروبي، بافتعال قضية الحدود التي ألقت بعود كبريت مشتعل في مخزن للبارود القديم، الذي أغلقت اتفاقية الجمعة العظيمة بابه في 1998.54