إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

ما هو أهم من طمأنة بومبيو

مفهوم أن يكون هناك اختلاف في الرؤية السياسية لدور الولايات المتحدة في العالم بين تيارين كل منهما يشكل الخط الراديكالي في حزبه. طبيعي أيضاً، أن تتفاوت مقاربات كل من التيارين للأزمات والتحديات التي تواجه المجتمع الأميركي.
قبل سنوات، تعرّف الأميركيون داخلياً وأبناء الشرق الأوسط وشعوب العالم على «مبادئ» الرئيس السابق أوباما، بدءاً من نظام الرعاية الصحية الذي كافح من أجل تطبيقه في أميركا... إلى «خطاب القاهرة» الشهير على أبواب «الربيع العربي».
وبعد الانقلاب السياسي المُزلزِل الذي حمل دونالد ترمب إلى البيت الأبيض في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، بدأت تتضح ملامح مقاربات وسياسات مختلفة على كل الأصعدة... وفي مختلف الاتجاهات، مع الأصدقاء والخصوم على السواء.
ما كان ممكناً أن يكون هناك تناقض أكبر في الغايات المعلنة بين الإدارتين الجديدة وسابقتها. بين يمين اليمين الجمهوري ويسار يسار الديمقراطيين. ومن ثم، أن يأتي وجهان بارزان من أركان إدارة ترمب إلى الشرق الأوسط، ويقوما بجولتين لعدد من العواصم المحوّرية أمام خلفية كارثية تسببت بها سياسات أوباما، لأمرٌ يستحق الدراسة... وبتمعّن.
الجانب المشجّع في إرسال ترمب وزير خارجيته مايك بومبيو - المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية «السي آي إيه» - ومستشاره لشؤون الأمن القومي جون بولتون، أحد «صقور» حقبة «المحافظين الجدد»، أنه ربما يعبّر عن جديّة حقيقية في التعامل مع ملفات منطقة حساسة من العالم... تشهد منذ بضع سنوات تساقط كل الفرضيات والقناعات، وصولاً إلى انهيار مُسلّمات ترسّخت طوال مرحلة «الحرب الباردة».
أحسب أن راصدي أوضاع الشرق الأوسط في واشنطن يدركون اليوم حجم التحوّل في نظرة المزاج الشعبي داخل كيانات المنطقة لعلاقات هذه الكيانات مع واشنطن. ومن ثَم، التحوّل من الثقة المُطلقة والمزمنة إلى التساؤل بصوت مرتفع، كي لا نقول التشكيك الصريح. ولعل هذا الواقع، هو ما نبّه أركان إدارة ترمب لوجوب التحرّك بصورة ما لمعالجة وضع غير مطمئن.
لا شك في أن «الحالة السورية» كانت نقطة تقاطع مهمة، وذلك لأننا على الساحة السورية، بالذات، شهدنا مناورات ومزايدات غير مسبوقة على مستوى الشرق الأوسط. ولقد استنهضت محنة سوريا خلال 7 سنوات عدة ظواهر مفصلية، لعل أبرزها وأخطرها:
- تعميق الصراع المذهبي السنّي - الشيعي، ومنحه أبعاد الحروب المفتوحة. ولقد تفاقم هذا الصراع، كما نرى اليوم، حتى خارج سوريا.
- إعادة تعريف الأولويات إزاء إسرائيل، وبخاصة، عندما قرّر الضاربون بسيف إيران أن هدف محاربة «التكفير» - الذي ادعوا أن خلفه إسرائيل والغرب - بات يتقدّم على محاربة إسرائيل نفسها.
- التصفية العملية للقضية الفلسطينية بعد تراجعها في قائمة الأولويات، وزجّ الفلسطينيين - مجدداً - في أتون النزاعات العربية والخيارات الإقليمية الصعبة في ظل «طريق مسدود» إسرائيلي، و«استغلال تقسيمي» إيراني، و«مزايدة» تركية و«قلة حيلة» عربية.
- إعادة تعريف الهوية العربية ذاتها، ناهيك بمفهوم «الوطنية». وهنا لا بد أن نستعرض خطاب الرئيس بشار الأسد الذي قال فيه كلماته الشهيرة: «الأرض لمَن يدافع عنها وليس لمَن يحمل جنسيتها»، وذلك في سياق دفاعه عن الميليشيات العراقية واللبنانية والإيرانية والأفغانية المنهمكة في تدمير مدن بلاده وتهجير سكانها.
- إطلاق الأحلام الانفصالية من كل نوع، وكل في طليعتها الحلم «الاستقلالي» الكردي في الشمال السوري، وتنامي دعوات «الفيدرالية» القائمة على الهويات الفئوية.
- تعقيد الحسابات الإقليمية المتصلة بـ«الفوضى المنظمة» التي كانت ثمة مصالح لعدد من اللاعبين في فرضها على سوريا، واستطراداً على المنطقة ككل. وكان الموضوع الكردي، ولا سيما دعم واشنطن غير المتحفّظ له في مرحلة من المراحل، عاملاً حاسماً في التلاقي التركي - الإيراني من ناحية. كذلك كانت التهديدات الروسية المبطّنة لتركيا في أعقاب إسقاط الطائرة الحربية الروسية عام 2015، مقدمة لتغيير تركيا سياستها وانخراطها في مسار آستانة بديلاً لمسار جنيف.
اليوم، خلال جولة الوزير بومبيو تجديد وتكرار للتأكيد على التزام واشنطن بالعلاقات مع «أصدقائها» في المنطقة. وتترافق تصريحات بومبيو، وكذلك مواقف بولتون المعهودة، مع التمهيد لمؤتمر دولي يُعقد في العاصمة البولندية يومي 13 و14 فبراير (شباط) المقبل تحت عنوان «تعزيز مستقبل الأمن والسلام في الشرق الأوسط» قيل إنه يستهدف بالأساس مواجهة النفوذ الإيراني وتصرّفات إيران لزعزعة الاستقرار والتدخل في شؤون الدول الخليجية.
هذه خطوة مشجّعة، لكن يجدر الإشارة أيضاً، إلى أن «المجلس الأطلسي»، ومقره العاصمة الأميركية، يستضيف يوم 12 فبراير - أي قبل يوم واحد من مؤتمر وارسو الدولي - مؤتمراً بمناسبة الذكرى السنوية الـ40 للثورة الخمينية تحت إشراف باربرا سلايفن، الإعلامية العاملة في موقع «إل مونيتور» المعروفة بتعاطفها الكبير مع طهران، يشارك فيه عدد من الخبراء والمحللين والناشطين... معظمهم أيضاً من مناصري نظام طهران والمدافعين عنه، ويتقدّمهم وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أحد أبرز رعاة تأسيس «اللوبي» الإيراني في أميركا.
من هذا المنطلق، أعتقد أن المسألة تحتاج إلى عملية إعادة بناء ثقة وتستند إلى الأفعال لا الأقوال. وهنا يكمن التحدي الأكبر في المنطقة.
الصورة الكبرى غامضة، والمصالح على مختلف المستويات متضاربة. ومع أن ثمة اتجاهاً لا لَبس فيه داخل الإدارة الأميركية يقف فعلياً ضد مطامع طهران التوسعية، فإنه في تغاضيه عن عوامل التفجير الأخرى التي خدمت طهران منذ زايدت الخمينية على كل العرب وكل المسلمين في موضوع فلسطين، يساعد القيادة الإيرانية... من حيث يدري أو لا يدري.
وكمثال، فإن نقل السفارة الأميركية إلى القدس كان خدمة ثمينة جداً للمشروع الإيراني في المنطقة، ربما عوّض طهران الكثير من التأثير السلبي للعقوبات. كذلك، فإن الالتباس في التعاطي مع الموضوع الكردي، أربك علاقة واشنطن بأنقرة، ودفع الأكراد إلى التشكيك في موثوقية واشنطن، وسمح لإيران بكسب الأتراك إلى جانبها على الساحة السورية، وربما العراقية أيضاً.
المطلوب من واشنطن، إذن، أكثر من وعود.
المنطقة تنتظر إجراءات عملية تربط بين أزماتها وتعقيداتها... وتميّز بين السبب والنتيجة.