إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

بانتظار تبلور «مشروع عربي»...

تتضارب المعلومات، وكذلك التخمينات، عن الخطوات العملية التالية عربياً مع بدء العد التنازلي للقمة الاقتصادية العربية المنتظر أن تستضيفها، في وقت لاحق من الشهر الحالي، العاصمة اللبنانية بيروت. وثمة، في لبنان، من يسعى لأن تكون القمة مناسبة لإعادة تأهيل النظام السوري، مع أن الأمر من اختصاص جامعة الدول العربية التي هي الجهة الداعية.
الحقيقة أن هذه القمة تأتي وسط حالة من الغموض والترقّب على مختلف المستويات. فلا الدول العربية المثقلة بهمومها تبدو قادرة على إعداد تصوّر واضح للمستقبل، ولا التحالفات العربية الإقليمية - كما يظهر - متفاهمة في العمق على مقاربات إزاء تحدّيات من السذاجة التقليل من جدّيتها.
الأشهر المقبلة، ناهيك من تحسّب خبراء أسواق المال لأزمة مالية عالمية قد لا تقل خطورتها عن أزمة 2008، لا تؤشر لانفراجات على مستوى العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط، وبالأخصّ، الدول المطوّقة بـ«مثلث» إسرائيل وإيران وتركيا. ولئن كانت السياسات المالية، والحمائية خاصة، التي تعتمدها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب تسهم بطريقة أو بأخرى في خلق ظروف مواتية لارتباك الأسواق، فإن السياسات الاستراتيجية إزاء المنطقة لا توحي: أولاً بمقاربة متماسكة نابعة من قناعات قوية، وثانياً بالتزام طويل الأمد من الحكمة الرهان عليه.
بالأمس، عندما دعا الاتحاد العمالي العام في لبنان إلى الإضراب العام، قال أحد كبار قادته: «نحن فقط نطالب بحكومة...»!
هذا كلام في ظاهره بسيط وبريء. وصحيح أن الحد الأدنى المطلوب توافره في أي دولة تعتبر نفسها مستقلة هو أن تكون فيها حكومة تسيّر أمورها، وتتحمّل مسؤولية ما يحدث فيها. إلا أن لبنان، المرشح لاستضافة القمة الاقتصادية المشار إليها، ما زال عاجزاً عن تشكيل حكومة... مع أن «الانتخابات» المفترض بها أن تفرز سلطة تشريعية تمهّد لسلطة تنفيذية تراقبها وتتكامل معها أجريت في مطلع مايو (أيار) الماضي!
نعم ثمانية أشهر مرّت ولا حكومة تحكم ولا سلطة تحاسب، وسط قلق وتراجع اقتصادي مخيف، وفراغ سياسي ما زال القادة السياسيون والدينيون والنقابيون غير مستعدين للتصارح بشأنه.
ليس هذا فحسب، بل إن بعض الساعين لاقتراح «تسويات» للخروج من هذا الفراغ هُم أيضاً جزء أساسي من مُسبباته، لا سيما أن التركيبة السياسية الحالية إنما قامت على مصالح آنية وحسابات كيدية لتمرير مرحلة من عُمر البلد، وانتظار تبدّل مفيد في المناخ الإقليمي. والقصد، من هذا الكلام، أنه لا توجد «قواسم مشتركة» حقيقية تجمع اللبنانيين، وبخاصة، أولئك الذين يزعمون أنهم «حلفاء»... وكل ما في الأمر، أن الظروف الحالية تفرض اصطفافات معيّنة مؤقتة ستسقط، عاجلاً أو آجلاً، بمجرّد تبدّل المشهد الإقليمي أو التعاطي الدولي مع المنطقة كلها.
إزاء هذه الخلفية يسعى الطرف المحسوب على رئيس الجمهورية المسيحي الماروني إلى الحصول على «الثلث المعطل» داخل الحكومة عبر تكبير دور الرئيس، ومن ثم، تهيئة الظروف لتسهيل مسألة وراثته من داخل «تياره» السياسي.
في المقابل، هناك «حزب الله»، وهو الطرف الأقوى واقعياً، لكنه أضعف من سابقه دستورياً. وهو يريد المحافظة على «الأمر الواقع» الذي يكفل له السلطة الفعلية عبر استمرار سيطرته على الأمن والسلاح، أولاً عن طريق شرذمة الجماعات الدينية والمذهبية الأخرى من الداخل، وثانياً منع الطرف الأول - أي «تيار» رئيس الجمهورية - من تعزيز استقلاليته والاستقواء بوضعه الدستوري.
ثم هناك معسكر رئيس الوزراء المكلّف الذي يشكل السنّة الثقل الأكبر فيه، وهو الآن يجد نفسه في موقف المتفرّج أمام صراع قوّتين لم يجمعهما، ولا يجمعهما أصلاً، أي هدف... سوى إضعافه وإنهاكه عن طريق تجاوز «اتفاق الطائف»، الذي صار جزءاً من دستور البلاد منذ 28 سنة، بعدما أنهى حرباً أهلية - إقليمية طالت نحو 15 سنة!
هذا الواقع اللبناني، لا يختلف كثيراً عن الواقع العراقي. ففي العراق أيضاً أزمة تعدّدية ونفوذ ضخم للقوى ذاتها التي تعزّز قبضة «حزب الله» في لبنان.
في العراق، أيضاً، إيران لاعب أساسي تعكس رغباته وطموحاته تنظيمات نافذة داخل «الحشد الشعبي» وبعض الكتل العراقية الطهرانية الولاء. وهنا، كما نشهد منذ شهور أيضاً، تعطّل تشكيل الحكومة لدى وصول الخلاف إلى ثلاث حقائب وزارية ذات أهمية سياسية وأمنية كبرى هي الداخلية والدفاع والعدل. هذا حصل بعدما نجحت القوى المحسوبة على إيران في إيصال مرشحها السنّي المفضل لرئاسة مجلس النواب المحجوز دستورياً للسُنة العرب. وهو مشهد يشبه تحمّس «حزب الله» في لبنان لـ«توزير» واحد من ستة نواب من السُنة، ومعارضته أن يكون هذا الوزير عضواً في حصة رئيس الجمهورية حيث يضمن الأخير «الثلث المعطل»! أما المكوّن الكردي، الذي كفل له الدستور رئاسة الجمهورية العراقية، فجرى تحييده مرحلياً، وسط «هدنة» غير معلنة في المسرح العراقي بين واشنطن وطهران.
وعبر المكوّن الكردي نصل إلى الوضع السوري.
ما يُلاحظ أن التعامل الأميركي على الأرض مع الحالة الكردية والوجود الإيراني في سوريا ما زال بعيداً جداً عن الوضوح. بل إن قرارات الرئيس ترمب، واستقالة وزير الدفاع الجنرال جيمس ماتيس، ثم استقالة مسؤول ملف مكافحة «داعش» بريت ماكغورك، تزيد الصورة تعقيداً وغموضاً. ولعل الزيارتين الموعودتين لكل من وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي للشرق الأوسط تحملان جديداً، أقله بالنسبة لقيادات المنطقة، كي تكون على بينة من القراءات والحسابات الأميركية.
وضع منطقة شرق الفرات، بشمال شرقي سوريا، لا ينفصل عن الاتصالات الكردية مع نظام بشار الأسد. والتطورات توحي بأنه لن يخرج عن «ترتيبات» معيّنة يشارك فيها الأتراك شمالاً، والإيرانيون وسطاً، والروس غرباً، وربما الإسرائيليون جنوباً، في «سوريا الجديدة» المتروكة حتى إشعار آخر في عهدة مؤسسة الأسد الأمنية.
في هذه الأثناء، يتشكل توجّه نحو إنهاء حالة الغياب العربي عن دمشق وملء الفراغ في سوريا. لكن الواقع، حتى اللحظة، يشير إلى حقيقتين مؤلمتين:
الأولى أن «إنهاء الغياب العربي» يحتاج إلى «مشروع عربي» غير موجود. والثانية أنه لا وجود إطلاقا لـ«فراغ» في سوريا... بل مصادرة كاملة لقرار السوريين المستقل.