د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

انتفاضات الشعوب العربية... ملاحظات أولية

منذ ثماني سنوات يأبى شهر يناير (كانون الثاني) الإتيان هادئاً، إذ تسبقه بأيام قليلة أحداث كبرى في هذا البلد العربي أو ذاك، ثم تتفاعل مع بدء العام الجديد وتزداد سخونة وتتغير أحوال كان يصعب توقعها. فقبل يناير 2011 بأيام قليلة، انتحر حرقاً الشاب التونسي البوعزيزي، وهو التاجر البسيط، احتجاجاً على سوء معاملة الشرطة له. لم يعرف أن هذا النوع من الاحتجاج، وإنْ كان فردياً، سيصبح مُفجراً لعاصفة من التغيرات في بلده تونس أولاً، ثم ثانياً في بلاد عربية أخرى تأثرت بما جرى من سقوط حكم الرئيس الأسبق بن علي نتيجة انتفاضة التونسيين على أحوالهم البائسة اقتصادياً وسياسياً، وكانت البداية في مصر ثم ليبيا فاليمن ثم سوريا.
مَن ينظر إلى السنوات الثماني الماضية متأملاً في ما جرى في كل بلد على حدةٍ، ويتأمل في ما يجري الآن في السودان حيث ينزل الناس إلى الشوارع من أجل الخبز والحرية ومنهم مَن يطالب بتغيير النظام، ويلقي ببصره على حادثة الصحافي التونسي عبد الرزاق رزقي الذي انتحر حرقاً احتجاجاً على سوء أحواله المعيشية وتدهور أحوال بلدته القصرين رغم «ثورة الياسمين»، فضلاً عن تغير البوصلة في سوريا من قرب انهيار النظام إلى استعادته بعضاً من العافية السياسية والأمنية مع استمرار تحديات لا حصر لها ومفتوحة على احتمالات عدة، والأمر ذاته في ليبيا واليمن... فعليه أن يسأل نفسه: ما الذي حدث بالضبط في تلك البلدان، وهل ما كان ثورة بالمعنى التاريخي أم انتفاضة جماهيرية أم هبّة شعبية أم تدخلاً خارجياً أم كل ذلك معاً؟ كما عليه أن يسأل نفسه أيضاً حول معايير نجاح الثورات أو الانتفاضات الجماهيرية ومعايير فشلها، وبالتالي أيٌّ من هذه البلدان العربية استطاع أن يحقق بعضاً من المطالب التي رفعتها جموع المتظاهرين بعفوية في حينه، وأيٌّ منها لم يستطع أن يحقق شيئاً على الإطلاق؟ وثمة أسئلة أخرى جوهرية تتفرع من هذين السؤاليْن المحوريين، ستظل مطروحة على طاولة الفكر والسياسة إلى زمن مقبل من دون حسم منهجي، وستظل معها التفسيرات والتأويلات المتناقضة هي سيدة الموقف.
ومن قبيل التأويل الأولي، واستناداً إلى مشاهدات ومتابعات مصرية وعربية، يمكن طرح عدة ملاحظات كالتالي:
أولاً، من زاوية منهجية بحتة وليست آيديولوجية أو ذاتية، فإن التحركات الجماهيرية التي شهدتها البلدان المُشار إليها بطابعها العفوي وحركية فئات من الشباب، تمكنت من حشد التجمعات الشعبية، وتوجيهها بعيداً عن وجود قيادة ملهمة تجتمع حولها الجماهير تجعلها انتفاضة شعبية كبيرة أكثر من أن تكون ثورة بالمعنى التاريخي تؤدي إلى التغيير الجذري في بنية النظام السياسي الحاكم. فبعض البلدان كتونس ومصر شهد تغيرات في قمة النظام السياسي، لكن البناء المؤسسي الكلّي ظل على حاله، بل إن مؤسسات سيادية كالجيش والقضاء انحازت إلى تغيير الشخوص ولكنها لم تسمح بإسقاط الدولة، وغلب على تحولاتها الطابع السلمي والتضحيات الأقل مقارنةً بما جرى في اليمن وليبيا وسوريا، وهي الحالات التي ساد فيها استخدام السلاح من كل الأطراف المحلية، فضلاً عن تدخلات خارجية ذات مستويات متعددة سياسياً وعسكرياً، إقليمياً ودولياً. وإلى حين يستعيد أيٌّ من هذه البلدان حالته الطبيعية من حيث السيادة على كل أراضيه وموارده والبنية المؤسسية غير الفاشلة ورضا الناس، وهو العنصر الأهم، ستظل التضحيات الشعبية الجسيمة اليومية جزءاً طبيعياً من المشهد اليومي المعيش.
ثانياً، لعبت الأبعاد الاقتصادية والمعيشية الدور الأكبر في تحفيز المواطنين للخروج إلى الشوارع أكثر من المطالب السياسية المباشرة، متأثرين بانتشار الفساد لدى النخبة الحاكمة واستحواذها على النسبة الأكبر من أي عائدات تنموية تحدث في البلاد. ويؤدي غياب القوى السياسية المنظمة في صورة نقابات أو اتحادات أو أحزاب عن قيادة تلك الانتفاضات الشعبية، لا سيما في الأيام الأولى لبدئها، إلى فقدان البوصلة والتوجيه المناسب، وأيضاً نشوء منافسة خفية بين هذه الكيانات المنظمة القديمة مهما كانت مواقفها «الثورية» السابقة، وبين القوى الجديدة خصوصاً الشبابية غير المؤطَّرة التي ترى نفسها الأحق بالقيادة والسير في تغيير كامل المنظومة إلى نهاية الشوط، استناداً إلى إيمانها الذاتي بأن الجماهير باتت تحت سيطرتها المعنوية ولن تخذلها.
ثالثاً، شهدت الحالات العربية كافة محاولات قوى منظمة ذات منحى آيديولوجي ديني للاستحواذ على الانتفاضة الشعبية وتوجيهها لتحقيق طموحات تلك القوى في الأساس لا سيما السيطرة المطلقة على الحكم «الجديد»، مما تسبب بحالة فوضى سياسية وأمنية، فضلاً عن حالة استنفار مضادّ لتلك القوى، وصل بعضها إلى حالة الاحتراب الأهلي. وفي غالب الأحوال فشلت تلك القوى الآيديولوجية ولكنها تسببت بقدر من الألم والفوضى.
رابعاً، إن انصراف الجماهير عن القوى المحفزة للانتفاضة الشعبية بعد فترة قصيرة أتى نتيجة تباين حاجة المواطنين إلى التغيير المحسوب المرتبط برؤية واضحة لما سيحدث لاحقاً، وبين رغبة القوى السياسية في التصعيد السياسي وبقاء الجماهير في الشوارع إلى ما لا نهاية. وعادةً ما أدى تجاهل عنصر القدرة الاستيعابية للجماهير ومدى تحملها لحالة الفراغ السياسي إلى الانصراف التدريجي عن تلك العناصر القيادية الجديدة، ومن ثمّ تختفي تلك العناصر من دون أي أسى شعبي، بل ذ من يحمِّلهم مسؤولية حدوث فوضى وخراب. وما لم يفهمه هؤلاء أن الناس بحاجة إلى ورش العمل لا إلى البقاء المفتوح في الشوارع.
خامساً، بناءً على ما سبق فإن حدوث الانتفاضة الشعبية، أياً كان حجمها ومداها الزمني، لا يعني أن مطالبها سوف تتحقق كاملة وفوراً، وإنْ تحقق بعضها في مدى زمني قصير نسبياً، كالتخلص من قيادات النظام السابق، فإن أهدافها الكبرى في التنمية الاقتصادية الشاملة والمشاركة السياسية والحريات ستظل بحاجة إلى مدى زمني طويل، وبحاجة إلى رؤية إصلاحية عميقة ومؤسسات قادرة على الإنجاز وبيئة إقليمية داعمة، والأهم قدر من الاستقرار السياسي الذي يسمح بالتغيير المحسوب تحت سقف القانون والدستور ومراقبة المواطنين. وفي كل الأحوال سيتطلب الأمر فترة انتقالية يكون هدفها الأهم هو إعداد المجتمع والمؤسسات لتلبية شروط التحول.
سادساً، أن القوى الإصلاحية والمؤمنة بمطالب الانتفاضات الشعبية وبضرورة تحقيقها تدريجياً، سواء سيطرت على السلطة أم بقيت خارجها، سيكون عليها تعبئة القناعات الشعبية الجماعية بأن ما تفعله هو لصالحها، وأن الأمر يتطلب بعض التضحيات ولمدة محدودة، وفي الآن نفسه ستظل في مواجهة شرسة مع كل القوى التي تضررت من حدوث قدر من الاستقرار النسبي.