جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

دفاعاً عن الهوية الليبية

المتابع السياسي للشأن الليبي خلال السنوات الثماني الأخيرة لا تفوته ملاحظة حقائق عديدة بدأت تظهر على السطح سواء على مستوى النخبة أو على المستوى العام، وفي مقدمتها يأتي إلحاح مفاجئ على ضرورة إعادة طرح سؤال الهوية الليبية، كأن ليبيا كيان سياسي بلا جذور انبثق فجأة من قلب ما أُطلق عليه اسم «الربيع العربي» أو كان نتيجة من نتائجه وفي حاجة إلى تعميق ومد جذوره في تربة المساحة المتعارف على موقعها دولياً من خريطة العالم جغرافياً وتاريخياً وثقافياً وسياسياً. الحقيقة التي لا مناص من مواجهتها هي أن وحدة ليبيا وهويتها ما زالتا عرضة لتهديد خطير.
تاريخياً، لم تعرف ليبيا الحالية بأقاليمها الثلاثة (طرابلس الغرب - برقة – فزان) الوحدة السياسية إلا في أثناء الاحتلال الروماني، وفي المرة الثانية كانت تحت الحكم الفاشي الإيطالي بعد انتهاء حركة المقاومة في عام 1930، وفي المرة الثالثة خلال الحكم الملكي.
المتابع للشأن الليبي أيضاً لا بد أن يكون على وعي بالتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها ليبيا خلال العقود الزمنية الستة الأخيرة، أي منذ تخلصها من ربقة استعمار غربيّ فاشيّ النزعة وظهورها كدولة ملكية فيدرالية مستقلة ذات سيادة تحت رعاية من الأمم المتحدة ثم تحولها اقتصادياً من «صندوق رمال» يعيش على ما يقدَّم له من مساعدات دولية إلى دولة نفطية غنية عقب فترة زمنية تعد قصيرة، وتحولها من فيدرالية إلى كيان موحد سياسياً أتاح للهوية الليبية مناخاً ملائماً للتمدد عمودياً وأفقياً في التربة الاجتماعية، ثم انتكاس ذلك التطور بسيطرة العسكر على مقدراتها عبر انقلاب اعتقل تنميتها وأدخلها في متاهات نفق مظلم لفترة تجاوزت أربعين عاماً.
خلال تلك الفترة التي تميزت بهوس النظام العسكري بالوحدة العربية وجدت الهوية الليبية نفسها محاصَرة في مناخ شديد الجهر بالعداء وتعرضت للتحجيم المقصود، مما عرّضها للانكماش ولم يكن أمامها سوى الانزواء في زاوية قصيّة، مطارَدةً من قبل هستيريا مهووسة بآيديولوجيا قومية رسمية أرهقت ليبيا واستنزفتها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وحين تبين عقمها وتأكد فشلها لم تتح للهوية الليبية فرصة لالتقاط أنفاسها والعودة للظهور من مكمنها لأن النظام دفع بالبلاد في خط سير آخر يقود هذه المرة جنوباً نحو مستنقعات أفريقيا وأدغالها فاتحاً الطريق والأبواب أمامه بمليارات الدولارات حيناً وبالتآمر السياسي والسلاح حيناً آخر.
لذلك حين سقط النظام العسكري وقُتل رَمزه وقائده وانتصرت الثورة بدا كأن ما خلطه من أمور وأوراق سياسية سيتم التعرض لها ووضعها في نصابها من جديد، إلا أن الرياح العصية أبت أن تأتي بما تشتهيه قلوب الليبيين الذين اعتلوا سفن الثورة وحلموا بالرسوّ على مرفأ تحقيق دولة القانون والعدل والمساواة، وسرعان ما شبّ فتيل نار الصراع والتنافس سياسياً وتحول إلى احتراب دموي كاد يودي بوحدة البلاد وحوّلها إلى ساحة مفتوحة أمام لاعبين إقليميين ودوليين، وتلاشى الأمن، وغاب النظام العام، وانفلتت الفوضى من عقالها، واحتكمت الأطراف المتنازعة إلى السلاح ففرّ من فرّ هرباً بحياته وأمنه إلى المهاجر وبقي من بقي واحلاً في أوحال واقع مفتوح على كل الاحتمالات إلا الاستقرار والسلام. هذا بدوره هيّأ مناخاً ملائماً لكي تطفو على السطح دعوات تطالب بإلغاء النظام المركزي وبالعودة إلى النظام الفيدرالي، وأخرى تدعو إلى التقسيم والانفصال بدعوى أن مناطقهم ومدنهم تعرضت للتهميش سياسياً واقتصادياً خلال فترة الحكم العسكري، ولم تنل نصيبها من الثروة النفطية التي تُستخرج من أراضيهم، ولم تجد نصيباً لها في التنمية بمختلف القطاعات، ونشطت حركة أمازيغية وأخرى تارقية وثالثة تمثل التبو، وبدا كأن الهوية الليبية أضحت مستهدفة من عدة جهات، ولم يكن صعباً على المراقب ملاحظة أن كل تلك التحركات كانت بوعي أو من دونه تكيل ضربات موجعة لهوية لم تتعافَ بعد مما أحاق بها خلال النظام العسكري السابق.
حدث كل ذلك في فترة زمنية قصيرة وبسرعة أثارت جزع التيار الوطني والمثقفين، واستدعت تحركهم للتصدي لتلك الهجمات والدفاع عن وحدة ليبيا وهويتها وردع القوى التي تستهدفهما، وأدى هذا التحرك النشط دوره الفعال في كسر حدة المهاجمين وردهم مؤقتاً على الأقل وبمساعدة ظروف محلية وإقليمية ودولية هيّأت مناخاً مواتياً.
لكن الساحة الليبية بانقسامها وتشظيها الحالي وهشاشة مكوناتها السياسية واستغوال ميليشياتها العسكرية لا يمكن أن تشكّل خط دفاع قوياً يصدّ أطماع المناوئين لوحدة البلاد أو الساعين لاستهداف مكونات الهوية الليبية وإضعافها من خلال تمزيق النسيج الاجتماعي واللحمة الوطنية المتشكل في العقود الماضية عبر إصابته بخروقات وتصدعات في مكونات هويته يحتاج رتقها وترميمها إلى أعوام طويلة.
الميليشيات العسكرية المنفلتة في كل المناطق وتغولها لا يهمها من أمر الهوية سوى نهب المال العام ونشر الرعب والفساد، وبالتالي فإن مهمة الدفاع عن هذه الهوية المستهدفة في هذه الأوقات العصيبة تجب أن تكون على رأس قائمة أجندة النخب السياسية الوطنية والمثقفين في كل أنحاء ليبيا.