زين العابدين الركابي
كاتب سعوديّ
TT

(وعلى الأرض السلام).. قالها حبيبنا المسيح عليه السلام

نستعمل في الثناء على الله سبحانه: عبارات متنوعة لكنها ذات مضمون واحد، ومنها (جل ثناؤه). (عز وجل). (تباركت أسماؤه).. (تقدس في علاه)، وحول العبارة الأخيرة ناقشني بعضهم فقال: إنك تستخدم عبارات تشبه عبارات المسيحيين في الثناء على الله، وذكر العبارة الأخيرة، وأحسب أنه يقصد - بالتحديد - ما قاله المسيح عليه السلام وهو يمجد ربه ويثني عليه: (المجد لله في الأعالي).. وعبارة إمامنا المسيح حق كلها؛ أولا: لأن (العلو) لله ثابت في عقيدة الأنبياء والمرسلين جميعا. ثانيا: لأن المسيح جاء بدعوة التوحيد الخالص. ثالثا: كل نبي هو أعرف الناس بربه وأسمائه وصفاته وبما يليق به من ثناء وتمجيد، حين نقول عن ربنا: (تقدس في علاه) إنما في خطى المسيح نمشي، وبمنهج أخيه محمد - عليه السلام - نهتدي، ففي الكتاب الذي نزل على محمد نقرأ: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى))..: ((وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ))..: ((عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ))..: ((وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)).. و(سبحان ربي الأعلى) هي العبارة التي علمنا نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - أن نقولها ونحن سجود نسبح ربنا ونعبده ونوحده. ونلصق جباهنا بالأرض: إقرارا بعبوديته، وحبا له، وقربا منه.
و(المجد لله في الأعالي) جملة مضيئة وردت في منظومة جمل متكاملة متناغمة: (المجد لله في الأعالي.. وبالناس المسرة.. وعلى الأرض السلام).
ونخصص هذا المقال للجملة الأخيرة التي جعلناها عنوانا لموضوعه.
إن السلام الذي نادى به المسيح عليه السلام هو هتاف المسيح ومنهجه ودعوته وقوام شخصيته.. نعلم ذلك من القرآن العظيم الذي أخبرنا بأن المسيح قد قال وهو في العهد صبيا: ((وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)).
والحق، إن السلام مطلب البشرية منذ وجدت وإلى أن تقوم القيامة. وهو مطلب لا يقل أهمية وإلحاحا عن مطالب الطعام والشراب والمأوى. فما قيمة هذه المطالب إذا فقد الإنسان السلام؟!
والحق - كذلك - إن البشرية قد تعبت، بل شقيت كثيرا وطويلا من الصراعات والحروب، وحسبها أن قتلاها – في القرن العشرين وحده - 120 مليون إنسان، ذهبوا صرعى في نحو 130 حربا.
نعم. شقيت البشرية بذلك كله.. ومن الرحمة بها: أن تعيش - في الحاضر والمستقبل - في سلام ووفاق: بشرط أن يتأسس السلام العالمي المطلوب على الحق والعدل.
ذلك أن كل سلام يقوم على الظلم والباطل يحمل نعيه في وثيقة إعلانه، إذ لا تلبث الأوجاع والأضغان أن تنفجر في هذا الشكل أو ذاك. فيمرض السلام أو يصبح شكلا من غير موضوع.
ولقد خلت المثلات من قبل.
والمثال المغلظ - ها هنا - هو (السلام) الذي صيغت وثائقه في خواتيم الحرب العالمية الثانية وبعيْدها.
لقد انبنى ذلك السلام على تجزئة أوروبا، وعلى التسليم بوضع شطرها الشرقي تحت إمرة الاتحاد السوفياتي سابقا، وعلى غياب سيادة بعض الدول بعد تقسيمها.
فماذا كان.
بعد نشوة الوفاق: اتضح أنه وفاق سراب، إذ أصبح هذا الوفاق أو السلام ذاته قاعدة (الحرب الباردة) وسباق التسلح بين الشرق والغرب لمدة أربعين عاما: تقريبا.
ونحن نقول لسيدنا المسيح: آمين آمين: على دعوتك الحانية الرشيدة (على الأرض السلام).
فالأصل بين الأمم - في منهج الإسلام - هو (السلام).
نعم. فالسلام والوفاق هما مناخ الإسلام، وهما الظرف المواتي لتجدده، وركض مسيرته، وعلاقته بالبشر أجمعين.
نعم: وليس السلام مناخا معاديا للإسلام كما يتصور ذلك خصوم الإسلام، ونفر من بينه الجهال.
هل الحرب أمنية ممتعة للمسلم؟ وبمقتضى هذه الأمنية، يجب أن يتمنى المسلمون أن تنشب حرب نووية - مثلا - تدمر حضارات الجنس البشري.. ثم يستأنف المسلمون مسيرتهم على أنقاض الآخرين الهالكين؟!
قد يتمدد هذا التصور في أذهان البعض: ربما ضيقا بمكر الذين يمكرون بالإسلام وأمته مكرا كبارا.
بيد أنه تصور مرعب، ومتخلف من حيث إنه تصور مناقض لمنهج الإسلام.. وقد لحظنا أن الأعداء يقدمون الأمة الإسلامية في هذه الصورة المتوحشة، كما فعل ذلك فيلم معاد يتنبأ بحصول المسلمين على رؤوس نووية تحملها صواريخ عابرة للقارات تدمر عواصم الغرب ومدنه وعصب إنتاجه.. ولم تنقه الحياة - وفق هذا الفيلم - ولم تنبت الورود إلا بعد أن أمسى المسلمون في باطن الأرض!!
وهذا خيال مريض تنسخه حقيقتان:
أ- حقيقة أن الإسلام دين تعديل وتحوير وترشيد للحضارات، وليس دين هدم، ولا دين الابتداء من الصفر!
ب- الحقيقة الثانية: أن بقاء البشر والحضارات هو (موضوع) الإسلام - هداية واتصالا وتعارفا وتعاونا وإقرارا وإنكارا - فبأي شيء يتوجه الإسلام بهداه: إذا فني البشر، ومحقت إمكاناتهم في حرب نووية؟!
إن الرؤية الإسلامية السوية لا تتمنى - قط - هلاك الآخرين من أجل أن يخلو وجه الأرض للمسلمين وحدهم. فهؤلاء الآخرون قد يسلمون أو قد يسلم أولادهم أو قد يعمرون كوكبنا هذا بما ينفع الناس، وبما يحقق سنة الله الكونية في إعمار الأرض: ((هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)).
ومعنا في ذلك هدى مبين.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال. وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك. فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين «جبلان عظيمان بمكة»)). فقال النبي: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)).
فلا الأخشبان، ولا الحرب النووية.
ويقترن توفير السلام بوجود مقتضيات كثيرة؛ منها (خفض التوتر الديني) في العالم.. وقد كان هذا هو موضوع المقال الماضي.
وليس ينبغي لعاقل - سياسي أو إعلامي أو داعية دين - أن يهون من شأن التوتر الديني وتداعياته. فأصل الكوارث الكبرى الماحقة (أفكار) تحولت إلى سلوك وفعل هددا الأمن الوطني والسلام العالمي. ففي التحليل النهائي: كانت النازية (فكرة) - وكذلك الفاشية.. ووباء الإرهاب: نبعه فكرة، وغذاؤه فكرة، ومشعل فتيله فكره.
إننا بمناسبة ميلاد رسول السلام المسيح عيسى ابن مريم ندعو إلى السلام مع البشرية كلها - مؤمنها وكافرها.. وقد يقول قائل: المؤمنون عرفناهم، فما بال السلام مع غير المؤمنين؟
والرد نص في المنهج - مقنع وواعد وجميل - وهو: ((وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونْ. فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ))
فالصفح والسلام – ها هنا - لقوم (لا يؤمنون).
فمن (حق) كل إنسان - أنى كان اعتقاده - أن يتمتع بالسلام الوطيد المكين.
فلنهتف - في حبور وتهلل: ((فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ)).