إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

فوسفور في «الشانزليزيه»

هذا جدل قديم قدم البشرية. وفي فرنسا التي توصف بأنها أكثر الدول الرأسمالية اشتراكيةً، يتحدثون عن مجتمع منقسم إلى فقراء وأغنياء. كأننا في زمن الثورة التي أطاحت بلويس السادس عشر وطبقة النبلاء. يذهب المحتجون إلى قلب المدينة السياحي ليقتلعوا حجارته ويرجموا رجال الشرطة وواجهات المصارف ومتاجر الثياب «اللوكس». الحجارة التي ترصفها وترممها أيدي العمال المغاربة. كل ما في هذه الجادة العريضة يرمز للثراء. حتى المتسولة الغجرية التي تفترش الرصيف تكشّر في وجه من يتصدّق عليها بأقل من يوروين اثنين.
هذا هو «الشانزليزيه». قبلة الزوار وعنوان الترافة وحاضنة التناقضات. مقاهٍ ومطاعم يتجاور فيها موظفو المصارف ونجوم الغناء والسياح وعملاء المخابرات والنشالون وفتيات المتعة. وها هو الآن يستقبل أصحاب السترات الصفر، رداء ذي لون فوسفوري فرضته إدارة المرور على كل من يقود سيارة أو دراجة أو حافلة، يرتديه عندما يترجل لإصلاح عطل طارئ فلا تخطئه أعين السائقين الآخرين. من كان يتوقّع أن تلك السترات ستصبح الزي الموحد لمسيرات الاحتجاج العنيف؟ رفعت الحكومة أسعار المحروقات فامتد اللهب إلى «الشانزليزيه». تعيش في باريس نصف عمرك ولا تحتاج للذهاب إليه. يكتفي أهل العاصمة بأحيائهم القريبة والبعيدة ويتركونه لزوار الفجر والضحى والليالي. وهو في عليائه يشبه برج بابل، تدور فيه الألسن بكل اللغات. لكن أجمل شارع في العالم تحول قبل يومين إلى ورشة نجارة، وأقام أصحاب المتاجر ألواحاً خشبية تحمي واجهاتهم الزجاجية من حجارة المتظاهرين.
أخذ الشارع اسمه من الأساطير اليونانية. وهو يعني تلك البقعة من الجحيم حيث تعيش النفوس الفاضلة. وكل يوم يمرّ في هذه البقعة نصف مليون شخص. يأتون ويلتقطون الصور ويتسوقون ويشربون «الكافيه أوليه» ويمضون مثلما جاءوا. عابرون في مكان مقيم يمتد لمسافة كيلومترين، من مسلة الأقصر المصرية في ساحة الكونكورد صعوداً إلى قوس النصر. ولما أحصت البلدية عدد الساكنين الفعليين وجدت أنهم لا يزيدون على 82 فرداً. ويبلغ سعر كل متر يشغلونه 20 ألف يورو. وقد استفاق هؤلاء مذعورين، ذلك السبت، على زعيق سيارات البوليس ودخاخين الغاز المسيل للدموع. وكان عهدهم بالشارع أنه مجرى للعطور وملتقى للبهجات. وفي بال كل فرنسي وفرنسية تلك اللقطات الشهيرة للجنرال ديغول وهو يقطع «الشانزليزيه» بالبزة العسكرية، يحيي الجماهير بعد عودته منتصراً إلى عاصمة بلاده التي هرب منها المحتلون النازيون.
هنا أيضاً يلتقي الباريسيون لتوديع سنة واستقبال أخرى. تنطلق صيحات التهاني ويتعانق الغرباء عند انتصاف الليل. لحظات ينتظرها كثيرون لاقتناص قبلة من خد أملس دون أن يحاسبهم أحد بتهمة التحرش. وهو الشارع الذي قصده مليون محتفل بفوز المنتخب الوطني بكأس العالم في كرة القدم، مرتين بينهما عشرون سنة. ومن المفارقات أن تندلع الحرائق في الموعد ذاته الذي أضيئت فيه أشجار «الشانزليزيه» بزينة الأعياد. كوكتيل عجيب يمزج مصابيح حمراء بسترات صفراء وبغاز أبيض يسيل الدموع.
نهبت جماعة ممن يسمونهم بالمندسين متاجر البضائع الثمينة. حقائب وساعات يعادل كل منها المرتب الشهري لخمسة عمال ماهرين. يتوهّم من يظن أنه لا فقراء في مرابع هذه المدينة، وأنه «لا سكاكين في مطابخها». وقد انتشر على مواقع التواصل إعلان مفبرك لسترة صفراء تحمل توقيع «فويتون»، إحدى أغلى العلامات التجارية الفرنسية. إنها تشبه السترة الفوسفورية التي ارتداها المصمم المعروف كارل لاغرفيلد في إعلان لتشجيع السائقين على اعتماد هذه السترة الواقية. جاء في الإعلان: «إنها صفراء، بشعة، ولا تتماشى مع أي ثوب. لكنها يمكن أن تنقذ حياتك». هل ينجو منها الرئيس ماكرون؟